التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠
قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
١١
وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٢
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣
قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الصادقين: داوموا على الخوف من ربكم، وعلى صيانة أنفسكم من كل ما يغضبه.
وفى التعبير بقوله - تعالى - : { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } دون قوله: قل لعبادى الذين آمنوا.. تكريم وتشريف لهم، لأنه - سبحانه - أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناديهم بهذا النداء الذى فيه ما فيه من التكريم لهم، حيث أضافهم إلى ذاته - تعالى - وجعل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هى التبليغ عنه - عز وجل -.
قال الآلوسى: قوله - تعالى: { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ }: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة، إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب، وفيه إيذان بأنهم هم.
أى: قل لهم قولى هذا بعينه، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، فإن نقل عين أمر الله - تعالى - أدخل فى إيجاب الامتثال به.
وجملة { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } تعليل لوجوب الامتثال لما أمره به من تقوى الله - تعالى - والاستجابة لإِرشاداته.
وقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } متعلق بمحذوف خبر مقدم، وقوله { فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } بقوله: أحسنوا، وقوله { حَسَنَةٌ } مبتدأ مؤخر.
أى: للذين أحسنوا فى هذه الدنيا أقوالهم وأعمالهم.. حسنة عظيمة فى الآخرة، ألا وهى جنة عرضها السموات والأرض.
وقوله - تعالى - : { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } جملة معترضة لإزاحة ما عسى أن يتعللوا به من أعذار، إذا ما حملهم البقاء فى أوطانهم على التفريط فى أداء حقوق الله.
قال صاحب الكشاف: ومعنى { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } أن لا عذر للمفرطين فى الإِحسان ألبتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإِحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين فى مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الصابرين فقال: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أى: إنما يوفى الصابرون على مفارقة الأوطان، وعلى تحمل الشدائد والمصائب فى سبيل إعلاء كلمة الله... يوفون أجرهم العظيم كل ذلك بغير حساب من الحاسبين. لأنهم لا يستطيعون معرفة ما أعده - سبحانه - لهؤلاء الصابرين من عطاء جزيل، ومن ثواب عظيم، وإنما الذى يعرف ذلك هو الله - تعالى - وحده.
قال الإِمام الشوكانى: أى: يوفيهم الله أجرهم فى مقابلة صبرهم بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب.
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شئ يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه. وهى فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة، تقتضى أن على كل راغب فى ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر على الصبر، ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرا قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع..
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمره به خالقه فقال: { إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ }
أى: قل لهم يا محمد إني أمرت من قبل الله - عز وجل - أن أعبده عبادة خالصة لا مجال معها للشرك أو الرياء، أو غير ذلك مما يتنافى مع الطاعة التامة لخالقى - سبحانه -.
{ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أى: أمرنى ربى بأن أخلص له العبادة إخلاصا تاما وكاملا، لكى أكون على رأس المسلمين وجوههم له، حتى يقتدى بى الناس فى إخلاصى وطاعتى له - عز وجل -.
قال - تعالى - :
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }
وقوله - سبحانه - : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } بيان لسوء عاقبة الشرك والمشركين.
أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى أخاف إن عصيت ربى، فلم أخلص له العبادة والطاعة، عذاب يوم عظيم الأهوال: شديد الحساب، وهو يوم القيامة، ولذلك فأنا لشدة خوفى من عذاب خالقى، أكثرهم إخلاصا له - عز وجل - وامتثالا لأمره، ومحافظة على طاعته.
{ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } أى: وقل لهم - أيضا - : الله - تعالى - وحده هو الذى أعبده عبادة لا يحوم حولها شرك، ولا يخالطها شئ من الرياء أو التكلف.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس بأساليب متنوعة، أنه لن يتراجع عن طاعته التامة لربه، وأن عليهم أن يتأسوا به فى ذلك.
قال الجمل: أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أولا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإِخلاص فيها، وثانيا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم. وثالثا: بأن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان. ورابعا: بأن يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله - تعالى - وأخلص له الدين على أبلغ وجه وآكده، إظهارا لتصلبه فى الدين، وحسما لأطماعهم الفارغة، وتمهيدا لتهديدهم بقوله: { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ... }
فالأمر فى قوله - تعالى - : { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ... } للتهديد والتقريع والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم - أيها المشركون - من أنى أول المسلمين وجوههم لله - تعالى - وحده، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه - عز وجل - فسترون عما قريب سوء عاقبة شرككم وجحودكم لنعم الله - تعالى -.
وقوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } بيان لسوء عاقبة من أعرض عن دعوة الحق، وقوله: { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ... } خبر إن.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ليس الخاسرون هم الذين أخلصوا عبادتهم لله - تعالى - وحده - كما زعمتم - وإنما الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بسبب إلقائهم فى النار، وحرمانهم من النعيم الذين أعده الله - تعالى - لعباده المؤمنين.
وقال - سبحانه - خسروا أنفسهم وأهليهم للإِشعار بأن هؤلاء المشركين لم يخسروا أنفسهم فقط بسبب دخولهم النار، وإنما خسروا فوق ذلك أهليهم لأنهم حيل بينهم وبين أهليهم، لأن أهلهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
وجملة: { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه، للإِشعار بأن هذا الخسران الذى حل بهم قد بلغ الغاية والنهاية فى بابه.
وقوله - سبحانه -: { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ... } تفصيل لهذا الخسران بعد تهويله عن طريق الإِبهام والإِجمال.
والظلل: جمع ظلة، وأصلها السحابة التى تظل ما تحتها، والمراد بها هنا طبقات النار التى تكون من فوقهم ومن تحتهم. وأطلق عليها هذا الاسم من باب التهكم بهم، إذ الأصل فى الظل أنها تقى من الحر، بينما الظلل التى فوق المشركين وتحتهم محرقة.
أى: هؤلاء المشركين طبقات من النار من فوقهم، وطبقات أخرى من النار من تحتهم، فهم محاطون بها من كل جانب، ولا يستطيعون التفلت منها.
قال الجمل فى حاشيته: "فإن قلت: الظلة ما فوق الإِنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟
قلت: فيه وجوه: الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. والثانى: أن الذى تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته فى النار لأنها دركات. الثالث: أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة الفوقانية فى الإِيذاء والحرارة، سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة".
واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ... } يعود إلى العذاب الشديد الذى أعده - سبحانه - لأولئك المشركين.
أى: ذلك العذاب الشديد يخوف الله - تعالى - به عباده، حتى يحذروا ما يوصل إليه، ويجتنبوا كل قول أو فعل من شأنه أن يفضى إلى النار.
وقوله: { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } نداء منه - تعالى - للناس يدل على رحمته بهم، وفضله عليهم، أى: عليكم يا عبادى أن تلتزموا طاعتى، وتجتنبوا معصيتى، لكى تنالوا رضائى وجنتى، وتبتعدوا عن سخطى ونارى.
وإلى هنا نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت الصابرين بالعطاء الذى لا يعلم مقدار فضله إلا الله - تعالى -، وأمرت بإخلاص العبادة لله - سبحانه - بأساليب متنوعة، وحذرت المشركين من سوء المصير إذا ماستمروا فى شركهم وكفرهم.
وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للخاسرين من عذاب أليم، أتبع ذلك ببيان ما أعده للمتقين من نعيم مقيم، فقال - تعالى - :
{ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ... }