التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥
فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: "مثانى" جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإِعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثانى، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة.
أى: الله - تعالى - نزل بفضله ورحمته عليك - يا محمد - أحسن الحديث { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أى: يشبه بعضه بعضا فى فصاحته وبلاغته، وفى نظمه وإعجازه، وفى صحة معانيه وأحكامه، وفى صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم...
"مثانى" أى: تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد، كما تثنى وتكرر قراءاته فلا تمل على كثرة الترداد، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة.
وسمى - سبحانه - كتابه حديثا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه. فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم.
ولفظ "كتابا" بدل من قوله { أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } وقوله: { مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } صفتان للكتاب.
ووصف بهما وهو مفرد وكلمة "مثانى" جمع، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام.
أى: الله - تعالى - أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ... التى يشبه بعضها فى الإِعجاز.. والتى تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار..
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال له ما ملخصه: "وإيقاع اسم مبتدأ، وبناء "نزل" عليه، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله، وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث.
فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشئ هى جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن سور وآيات... كما تقول الإِنسان عظام وعروق، فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شئ عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها، ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات، ليركزه فى قلوبهم، كى يغرسه فى صدورهم...
وقوله - تعالى -: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ... }.
استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم فى نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه فى ذاته.
وقوله "تقشعر" من الاقشعرار، وهو الانقباض الشديد للبدن. يقال: اقشعر جسد فلان، إذا انقبض جلده واهتز... وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله - تعالى - .
أى: أن هذا الكتاب العظيم عندما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر. ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرأوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة.
قال الجمل: "فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا؟.
قلت: ذكر الخشية التى تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم فى أول الأمر، فإذا ذكروا الله - تعالى - وذكروا رحمته وسعتها، استبدلوا بالخشية رجاء فى قلوبهم، وبالقشعريرة لينا فى جلودهم..
والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله - تعالى - والرجاء فى رحمته ومغفرته، إذ أن اقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح، وعدى الفعل "تلين" بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن.
ومفعول { ذِكْرِ ٱللَّهِ } محذوف للعلم به، أى: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته.
قال ابن كثير ما ملخصه: هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه:
أحدها: أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات.
الثانى: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم، ولم يكونوا - كغيرهم - متشاغلين لاهين عنها.
الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها.... ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم.
قال قتادة عند قراءته لهذه الآية: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأنهم تقشعر جلودهم وتبكى أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا فى أهل البدع، وهذا من الشيطان...
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى -: { ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعود إلى الكتاب الذى مرت أوصافه، وأوصاف القارئين له والمستمعين إليه.
أى: ذلك الكتاب العظيم المشتمل على أحسن الإرشادات وأحكمها، هدى الله الذى يهدى بسببه من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم، ومن يضلله - سبحانه - عن طريق الحق، فماله من هاد يهديه إلى هذا الطريق القويم.
ثم نفى - سبحانه - المساواة بين هؤلاء الذين يخشون ربهم، وبين غيرهم ممن قست قلوبهم، وانحرفت نفوسهم عن الحق، فقال - تعالى - : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }.
والاستفهام: للنفى والإِنكار، و "من" اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف.
أى: أفمن كان يوم القيامة مصيره إلى النار التى يتقيها ويحاول درأها عن نفسه بوجهه الذى هو أشرف أعضائه، كمن يأتى يوم القيامة آمنا مطمئنا بعيدا عن النار وسعيرها؟
وفى الآية الكريمة ما فيها من تهويل عذاب يوم القيامة، إذ جرت عادة الإِنسان أن يتقى الآلام بيديه وجوارحه، فإذا ما اتقاها بوجهه الذى هو أشرف أعضائه، كان ذلك دليلا على أن ما نزل به فى نهاية الفظاعة والشدة.
وفى قوله - تعالى -: { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } مبالغة أخرى، إذ نفس العذاب سوء، فإذا ما وصف بعد ذلك بالسوء، كان أشد فى الفظاعة والإِهانة والألم.
وجملة: { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ... } عطف على من "يتقى..." أى: هذا هو مصير الظالمين، إنهم يتقون النار بوجوههم التى هى أشرف أعضائهم، وهذا الاتقاء لن يفيدهم شيئا، بل ستغشاهم النار بلهبها، ويقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب ما كنتم تكسبون فى الدنيا من أقوال باطلة، وأفعال قبيحة.
{ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من أمم الكفر والضلال { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ } المقدر لكل أمة من أمم الكفر.
{ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أى: من الجهة التى لا تخطر لهم على بال، أن العذاب يأتيهم منها، فيكون وقعه عليهم أشد وأفظع.
{ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أى: العذاب الذى يذلهم ويخزيهم فى الحياة الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ } المعد لهم { أَكْبَرُ } كيفا وكمّاً { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى: لو كانوا من أهل العلم والفهم لما ارتكبوا ما ارتكبوا من كفر وفسوق وعصيان، أدى بهم إلى العذاب المهين.
ثم كرر - سبحانه - مدحه للقرآن الكريم، بأن بين أنه مشتمل على كل مثل نافع للناس، وأنه لا لبس فيه ولا اختلاف، وساق مثلا للمشرك الذى يعبد آلهة كثيرة، وللمؤمن الذى يعبد إلها واحدا، وبين أن جميع الناس سيعمهم الموت. وأنهم جميعا سيرجعون إلى الله للحساب، فقال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ... }.