التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
١٥
وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
١٦
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { وَٱللاَّتِي } جمع التى. وهى تستعمل فى جمع من يعقل. أما إذا أريد جمع ما لا يعقل من المؤنث فإنه يقال: التى. تقول: أكرمت النسوة اللاتى حضرن. وتقول: نزعت الأثواب التى كنت ألبسها. وهذا هو الرأى المختار.
وبعضهم يسوى بينهم فيقول فى الجمع المؤنث لغير العاقل: اللاتى.
وقوله { يَأْتِينَ } من الإِتيان ويطلق فى الأصل على المجئ إلى شئ. والمراد به هنا الفعل. أى واللاتى يفعلن { ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ }.
والفاحشة: هي الفعلة القبيحة. وهى مصدر كالعافية. يقال فحش الرجل يفحش فحشا. وأفحش: إذا جاء بالقبح من القول أو الفعل.
والمراد بها هنا: الزنا.
وقوله: { مِن نِّسَآئِكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَأْتِينَ } أى: يأتين الفاحشة حال كونهن من نسائكم.
والمراد بالنساء فى قوله { مِن نِّسَآئِكُمْ }: النساء اللاتى قد أحصن بالزواج سواء أكن مازلن فى عصمة أزواجهن أم لا. وهذا رأى جمهور الفقهاء.
وبعضهم يرى أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكاراً.
والمعنى: أن الله - تعالى - يبين لعباده بعض الأحكام المتعلقة بالنساء فيقول:
أخبركم - أيها المؤمنون - بأن اللاتى يأتين فاحشة الزنا من نسائكم، بأن فعلن هذه الفاحشة المنكرة وهن متزوجات أو سبق لهن الزواج.
{ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أى: فاطلبوا أن يشهد عليهن بأنهن أتين هذه الفاحشة المنكرة أربعة منكم أى من الرجال المسلمين الأحرار.
وقوله: { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } أى فإن شهد هؤلاء الأربعة بأن هؤلاء النسوة قد أتين هذه الفاحشة، فعليكم فى هذه الحالة أن تحبسوا هؤلاء النسوة فى البيوت ولا تمكنوهن من الخروج عقوبة لهن، وصيانة لهن عن تكرار الوقوع فى هذه الفاحشة المنكرة، وليستمر الأمر على ذلك { حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } أى حتى يقبض أرواحهن الموت. أو حتى يتوفاهن ملك الموت.
وقوله: { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } أى: أو يجعل الله لهن مخرجا من هذا الإِمساك فى البيوت، بأن يشرع لهن حكما آخر.
وقوله: { وَٱللاَّتِي } فى محل رفع مبتدأ. وجملة { فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } خبره.
وجاز دخول الفاء الزائدة فى الخبر. لأن المبتدأ أشبه الشرط فى كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل.
وعبر - سبحانه - عن ارتكاب فاحشة الزنا بقوله: { يَأْتِينَ } لمزيد التقبيح والتشنيع على فاعلها: لأن مرتكبها كأنه ذهب إليها عن قصد حتى وصل إليها وباشرها.
واشترط - سبحانه - شهادة أربعة من الرجال المسلمين الأحرار؛ لأن الرمى بالزنا من أفحش ما ترمى به المرأة والرجل، فكان من رحمة الله وعدله أن شدد فى إثبات هذه الفاحشة أبلغ ما يكون التشديد، فقرر عدم ثبوت هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل فى ذلك شهادة النساء.
قال الزهرى: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء فى الحدود.
وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع، ولذا قال { فَإِن شَهِدُواْ } أى إن ذكروا أنهم عاينوا ارتكاب هذه الجريمة من مرتكبيها. وشهدوا على ما عاينوه وأبصروه { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ }.
وحتى فى قوله. { حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } بمعنى إلى. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وهى متعلقة بقوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } غاية له.
والمراد بالتوفى أصل معناه أى الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالى الذى على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك. والكلام على حذف مضاف أى: حتى يقبض أرواحهن الموت. أو حتى يتوفاهن ملائكة الموت.
و"أو" فى قوله { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }، للعطف، فقد عطفت قوله { يَجْعَلَ } على قوله: { يَتَوَفَّاهُنَّ } فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا.
فيكون المعنى. أمسكوهن فى البيوت إلى أن يتوفاهن الموت، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا أى مخرجا من هذه العقوبة.
وقد جعل الله - تعالى - هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزانى البكر: الجلد. وجعل عقوبة الزانى الثيب: الرجم وقد رجم النبى - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك الأسلمى، ورجم الغامدية، وكانا محصنين.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: كان الحكم فى ابتداء الإِسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست فى بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال - تعالى -: { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } الآية. فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ لذلك - أى لإمساكهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت -.
قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخه بالجلد أو الرجم.
وكذلك روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه.
روى الإِمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال: خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب. والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ونفى سنة" .
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عبادة بن الصامت".
هذا وما ذكره ابن كثير من أن هذا الحكم كان فى ابتداء الإِسلام، ثم نسخ بما جاء فى سورة النور وبما جاء فى حديث عبادة بن الصامت، هو مذهب جمهور العلماء.
وقال صاحب الكشاف: ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن فى البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال. { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } هو النكاح الذى يستغنين به عن السفاح وقيل السبيل: الحد، لأنه لم يكن مشروعا فى ذلك الوقت".
وقال أبو سليمان الخطابى: هذه الآية ليست منسوخة، لأن قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ } ألخ، يدل على أن إمساكهن فى البيوت ممتد إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا، وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال النبى صلى الله عليه وسلم خذوا عنى. ألخ، صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها".
ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال: { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا }.
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما.
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { وَٱللَّذَانَ }.
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا.
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط.
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب.
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول، قالوا: لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين:
أحدهما: الحبس في البيوت.
والثاني: الإِيذاء، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثانى، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر.
قالوا: وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة.
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور:
{ { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية.
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنها مجرد الإِيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور. أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل، وأنه لا نسخ بين الآيتين.
هذا، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والمراد بقوله { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء. وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور.
قال الآلوسى: وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك. وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له. لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا. فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج. وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات...".
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور
{ { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية.
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره.
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء هو تمام العقوبة، مع أنه لم يثبت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه عاقب أحدا من الزناة بالحبس أو بالإِيذاء بعد نزول آية سورة النور. بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء، ويرجم المحصن منهما، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ.
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال: { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }.
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة.
وبعد أن وصف - سبحانه - ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوبة، ومن لا تقبل منهم فقال: { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ.....عَذَاباً أَلِيماً }.