التفاسير

< >
عرض

ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
٣٥
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } الآية.
ومن هذه الروايات ما ذكره القرطبى من أنها
"نزلت فى سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبى زهير فلطمها؛ فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتى فلطمها. فقال صلى الله عليه وسلم لتقتص من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه. فقال - عليه الصلاة والسلام - ارجعوا هذا جبريل أتانى" فأنزل الله هذه الآية.
وقوله { قَوَّامُونَ } جمع قوام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشئ وحفظه. يقال: قام فلان على الشئ وهو قائم عليه وقوام عليه، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه. ويقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذى يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وإصلاحها ورعاية شئونها. أي: الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والنفقة والتأديب وغير ذلك مما تقتضيه مصلحتهن.
ثم ذكر - سبحانه - سببين لهذه القوامة.
أولهما: وهبى وقد بينه بقوله: { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }.
أى أن حكمة الله اقتضت أن يكون الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من قوة فى الجسم، وزيادة فى العلم، وقدرة على تحمل أعباء الحياة وتكاليفها وما يستتبع ذلك من دفاع عنهن إذا ما تعرضن لسوء.
قال الفخر الرازى: واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة: بعضها صفات حقيقية وبعضها أحكام شرعية. أما الصفات الحقيقة فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين. إلى العلم وإلى القدرة.
ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر. ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء فى العقل والحزم والقوة. وإن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإِمامة الكبرى والصغرى والجهاد، والأذان، والخطبة، والولاية فى النكاح. فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء".
والمراد بالتفضيل فى قوله { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الآحاد على الآحاد. فقد يوجد من النساء من هى أقوى عقلا وأكثر معرفة من بعض الرجال.
والباء للسببية، وما مصدرية، والبعض الأول المقصود به الرجال والبعض الثانى المقصود به النساء. والضمير المضاف إليه البعض الأول يقع على مجموع الفريقين على سبيل التغليب.
وقال - سبحانه - { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ولم يقل - مثلا -: بما فضلهم الله عليهن، للإِشعار بأن الرجال من النساء والنساء من الرجال كما قال فى آية أخرى
{ { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } وللإِشارة إلى أن هذا التفضيل هو لصالح الفريقين، فعلى كل فريق منهم أن يتفرغ لأداء المهمة التى كلفه الله بها بإخلاص وطاعة حتى يسعد الفريقان.
وأما السبب الثاني: فهو كسبى وقد بينه - سبحانه - بقوله: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ }.
أى أن الله - تعالى - جعل الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من علم وقدرة. وبسبب ما ألزم به الرجال من إنفاق على النساء ومن تقديم المهور لهن عند الزواج بهن، ومن القيام برعايتهن وصيانتهن.
قال الآلوسى: واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج. وأن عليها طاعته إلا فى معصية الله - تعالى -. وفى الخبر
"لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" . واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة. وهو مذهب مالك والشافعى، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح. وعندنا لا فسخ لقوله - تعالى: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ }. واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته فى نفسها وما لها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأنه - سبحانه - جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة. وهو الناظر على الشئ الحافظ له".
ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل أحوال النساء. وفى بيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، فقسمهن إلى قسمين:
فقال فى شأن القسم الأول: { فَٱلصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ }.
أى: فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن { قَانِتَاتٌ } أى مطيعات لله - تعالى ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب، ومن صفاتهن كذلك أنهن { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ }.
قال صاحب الكشاف: الغيب خلاف الشهادة. أى حافظات لمواجب الغيب. إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه فى حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت. وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال.
"خير النساء أمرأة إن نظرت إليها سرتك، وأن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها" ، ثم تلا الآية الكريمة.
و"ما" فى قوله { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } يحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى: أن هؤلاء النساء الصالحات المطيعات من صفاتهن أنهن يحفظن فى غيبة أزواجهن ما يجب حفظه بسبب حفظ الله لهن ورعايته إياهن بالتوفيق للعمل الذى يحبه ويرضاه.
ويحتمل أن تكون موصولة فيكون المعنى: أنهن حافظات لغيبة أزواجهن فى النفس والعرض والمال وكل ما يجب حفظه بسبب الأمر الذى حفظه الله لهن على أزواجهن حيث كلف الأزواج بالانفاق عليهن وبالإِحسان إليهن، فعليهن أن يحفظن حقوق أزاوجهن فى مقابلة الذى حفظه الله لهن من حقوق على أزواجهن.
فالجملة الكريمة تمدح النساء الصالحات المطيعات الحافظات لأسرار أزواجهن ولكل ما يجب حفظه من عرض أو مال أو غير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية.
هذا هو القسم الأول من النساء، أما القسم الثانى فقد قال - سبحانه - فى شأنه: { وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ } والمراد بقوله { نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وخروجهن عما توجيه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها. يقال: نشزت الزوجة نشوزا أى: عصت زوجها وامتنعت عليه. وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع فى وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها. فشبهت المرأة المتعالية على طاعة زوجها بالمرتفع من الأرض.
والمعنى: هذا شأن النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بسبب حفظ الله لهن، أما النساء اللاتى تخافون { نُشُوزَهُنَّ } أى عصيانهن لكم، وترفعهن عن مطاوعتكم، وسوء عشرتهن { فَعِظُوهُنَّ } بالقول الذى يؤثر فى النفس، ويوجههن نحو الخير والفضيلة، بأن تذكروهن بحسن عاقبة الطاعة للزوج. وسوء عاقبة النشوز والمعصية، وبأن تسوقوا لهن من تعاليم الإِسلام وآدابه وتوجيهاته ما من شأنه أن يشفى الصدور، ويهدى النفوس إلى الخير.
قال ابن كثير: وقوله - تعالى -: { وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أى النساء تخافون أن ينشزن على أزواجهن فعظوهن. والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هى المرتفعة على زوجها التاركة لأمره، المعرضة عنه المبغضة له، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لماله عليها من الفضل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" .
وقوله { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } أى وعليكم إذا لم تنفع الموعظة والنصيحة معهن أن تتركوهن منفردات فى أماكن نومهن.
فالمضاجع جمع مضجع - وهو مكان النوم والاضطجاع.
قال القرطبى: والهجر فى المضجع هو أن يضاجعها - أى ينام معها فى فراش واحد - ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقال مجاهد: { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } أى تجنبوا مضاجعهن أى - اهجروا أماكن نومهن بأن تناموا بعيدا عنهن -".
روى أبو داود بسند
"عن معاوية بن حيدة القشيرى أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه. ولا تقبح. ولا تهجر إلا فى البيت" .
وقوله { وَٱضْرِبُوهُنَّ } معطوف على ما قبله. أى إن لم ينفع ما فعلتم من العظة والهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح - أى غير شديد ولا مشين - فقد ثبت فى صحيح مسلم عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى حجة الوداع: "واتقوا الله فى النساء فانهن عوان عندكم - أى أسيرات عندكم - ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح" .
وقد فسر العلماء الضرب غير المبرح بأنه الذى لا يكسر عظما، ولا يشين جارحة، وأن يتقى الوجه فإنه مجمع المحاسن ولا يلجأ إليه إلا عند فشل العلاجين السابقين.
وقد قال - سبحانه - { وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ولم يقل: واللائى ينشزن، للإِشعار بأن يبدأ الزوج بعلاج عيوب زوجته عندما تظهر أمارات هذه العيوب وعلاماتها وأن لا يتركها حتى تشترى وتشتد، بل عليه عندما يخشى النشوز أن يعالجة قبل أن يقع، وأن يكون علاجه بطريقة حكيمة من شأنها أن تقنع وتفيد.
وبعضهم فسر الخوف، بالعلم أى واللاتى تعلمون نشوزهن فعظوهن... إلخ.
وبعضهم قدر مضافا فى الكلام أى: واللاتى تخافون دوام نشوزهن، فعظوهن واهجروهن فى المضاجع.. الخ.

وبعضهم قدر معطوفا محذوفا أى: واللاتى تخافون نشوزهن ونشزن، فعظوهن واهجروهن فى المضاجع...الخ.
وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك فى معالجته لزوجته تلك الأنواع الثلاثة على الترتيب بأن يبدأ بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك، ولأنه قد رتب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التى تبدأ بالعقوبة الخفيفة ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم إلى الأكثر شدة.
قال الفخر الرازى: وبالجملة فالتخفيف مراعى فى هذا الباب على أبلغ الوجوه. والذى يدل عليه اللفظ أنه - تعالى - ابتدأ بالوعظ. ثم ترقى منه إلى الضرب. وذلك تنبيه يجرى مجرى التصريح فى أنه متى حصل الغرض بالطريق الأخف، وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإِقدام على الطريق الأشق. وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب.
وقال بعض أصحابنا: "تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال. وله عند إيداء النشوز من يعظها أو يهجرها، أو يضربها".
ثم بين - سبحانه - ما يجب على الرجال نحو النساء إذا ما أطعنهم وتركن النشوز والعصيان فقال - تعالى -: { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }.
أى فإن رجعن عن النشوز إلى الطاعة وانقدن لما أوجب الله عليهن نحوكم أيها الرجال، فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدى عليهن، أو فلا تظلموهن بأى طريق من طرق الظلم كأن تؤذوهن بألسنتكم أو بأيدكم أو بغير ذلك، بل اجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن، وحاولوا التقرب إليهن بألوان المودة والرحمة.
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذروا مخالفة أمره، فإن قدرته - سبحانه - عليكم أعظم من قدرتكم على نسائكم.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به حث الأزواج على قبول توبة النساء، وتحذيرهم من ظلمهن إذا ما تركن النشوز، وعدن إلى طريق الطاعة والإِنابة.
قال بعضهم: وذكر هاتين الصفتين فى هذا الموضع فى غاية الحسن، وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء. والمعنى: أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله - سبحانه - ينتصف لهن منكم لأنه علىٌّ قاهر كبير.
الثانى: لا تبغوا إذا أطعنكم لعلو أيديكم، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شئ.
الثالث: أنه - سبحانه - مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، كذلك لا تكلفوهن محبتكم، فإنهن لا يقدرن على ذلك.
الرابع: أنه مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصى إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تتركوا عقوبتها وتقبلوا توبتها.
الخامس: أنه - تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن تقعوا فى التفتيش عما فى قلبها وضميرها من الحب والبغض".
ثم بين - سبحانه - ما يجب عمله إذا ما نشب خلاف بين الزوجين فقال - تعالى -: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }.
والمراد بالخوف هنا العلم. والخطاب لولاة الأمور وصلحاء الأمة. وقيل لأهل الزوجين.
والمراد بالشقاق ما يحصل بين الزوجين من خلاف ومعاداة. وسمى الخلاف شقاقاً لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه، أو لأن كل واحد من الزوجين صار فى شق وجانب غير الذى فيه صاحبه.
وقوله { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله شقاقا بينهما. فأضيف الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى لمفعول فيه إتساعا. كقوله - تعالى -
{ { بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } }. وأصله بل مكر فى الليل والنهار.
وإما على إجرائه مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين. كما فى قولك: نهارك صائم.
والمعنى: وإن علمتم أيها المؤمنون أن هناك خلافا بين الزوجين قد يتسبب عنه النفور الشديد، وانقطاع حبال الحياة الزوجية بينهما، ففى هذه الحالة عليكم أن تبعثوا { حَكَماً } أى رجلا صالحا عاقلا أهلا للإِصلاح ومنع الظالم من الظلم { مِّنْ أَهْلِهِ } أى من أهل الزوج وأقاربه { وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } أى من أقارب الزوجة بحيث يكون على صفة الأول: لأن الأقارب فى الغالب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإِصلاح، وتسكن إليهم النفس أكثر من غيرهم.
وعلى الحكمين فى هذه الحالة أن يستكشفا حقيقة الخلاف، وان يعرفا هل الإِصلاح بين الزوجين ممكن أو أن الفراق خير لهما؟.
وظاهر الأمر فى قوله { فَٱبْعَثُواْ } أنه للوجوب، لأنه من باب رفع المظالم ورفع المظالم من الأمور الواجبة على الحكام.
وظاهر وصف الحكمين بان يكون أحدهما من أهل الزوج والثانى من أهل الزوجة. أن ذلك شرط على سبيل الوجوب، إلا أن كثيرا من العلماء حمله على الاستحباب، وقالا: إذا بعث القاضى بحكمين من الأجانب جاز ذلك، لأن فائدة بعث الحكمين استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، وهذا أمر يستطيعه الأقارب وغير الأقارب إلا أنه يستحب الأقارب فيه لأنهم أعرف بأحوال الزوجين، وأشد طلباً للإِصلاح، وأبعد عن الظنة والريبة، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس.
والضمير فى قوله - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يجوز أن يعود للحكمين ويجوز أن يكون للزوجين. وكذلك الضمير فى قوله { يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ } يحتمل أن يكون للحكمين وأن يكون للزوجين.
والأولى جعل الضمير الأول للحكمين والثانى للزوجين فيكون المعنى: إن يريدا أى الحكمان إصلاحا بنية صحيحة وعزيمة صادقة، يوفق الله بين الزوجين بإلقاء الألفة والمودة فى نفسيهما، وانتزاع أسباب الخلاف من قلبيهما.
هذا، وقد اختلف العلماء فيما يتولاه الحكمان، أيتوليان الجمع والتفريق بين الزوجين بدون. إذنهما أم ليس لهما تنفيذ أمر يتعلق بالزوجين إلا بعد استئذانهما؟.
يرى بعضهم أن للحكمين أن يلزما الزوجين بما يريانه بدون إذنهما، لأن الله - تعالى - سماهما حكمين، والحكم هو الذى بحسم الخلاف بما تقتضيه المصلحة سواء أرضى المحكوم عليه أم لم يرض؛ ولأن القاضى هو الذى كلفهما بهذه المهمة فلهما أن يتصرفا بما يريانه خيراً بدون إذن الزوجين؛ ولأن عليا - رضى الله عنه - عندما بعث الحكمين لحسم الخلاف الذى نشب بين أخيه عقيل وبين زوجته قال لهما: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتم أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما...
وإلى هذا الرأى اتجه ابن عباس والشعبى ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم.
ويرى الحسن وأبو حنيفة وغيرهما أنه ليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا برضاهما لأنهما وكيلان للزوجين، ولأن الآية الكريمة قد بينت أن عملهما هو الإصلاح فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما، ولأن الطلاق من الزوج وحده، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } أى: إنه - سبحانه - عليهم بظواهر الأمور وبواطنها. خبير بأحوال النفوس وطرق علاجها، ولا يخفى عليه شئ من تصرفات الناس وأعمالهم، وسيحاسبهم عليها.
فالجملة الكريمة تذييل المقصود منه الوعيد للحكمين إذا ما سلكوا طريقا يخالف الحق والعدل.
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا هاما مما يجب للرجال على النساء، ومما يجب للنساء على الرجال، فقد مدحت أولاهما النساء الصالحات المطيعات الحافظات لحق أزواجهن، ورسمت العلاج الناجع الذى يجب على الرجال أن يستعملوه إذا ما حدث نشوز من زوجاتهم، وحذرت الرجال من البغى على النساء إذا ما تركن النشوز وعدن إلى الطاعة والاستقامة { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }. ثم طلبت الآية الثانية من ولاة الأمور وصلحاء الأمة أن يتدخلوا بين الزوجين إذا ما نشب خلاف بينهما، وأن يكون هذا التدخل عن طريق حكمين عدلين عاقلين يتوليان الإِصلاح بينهما، ويقضيان بما فيه مصلحة الزوجين، وقد وعد - سبحانه - بالتوفيق بين الزوجين متى صلحت النيات، وصفت النفوس، ومالت القلوب نحو التسامح والتعاطف قال - تعالى - { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }.
وبهذا التشريع الحكيم تسعد الأمم والأسر، وتنال ما تصبوا إليه من رقى واستقرار.
وبعد هذا البيان الحكيم الذى ساقته السورة الكريمة فيما يتعلق بأحكام الأسرة ووسائل استقرارها، وعلاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع... بعد هذا البيان الحكيم عن ذلك أخذت السورة الكريمة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى التحلى بمكارم الأخلاق، ونهتهم عن الإِشراك بالله - تعالى -، وعن الغرور والبخل والرياء، وغير ذلك من الأعمال التى ترضى الشيطان وتغضب الرحمن فقال - تعالى -: { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ...حَدِيثاً }.