التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال ابن كثير - عند تفسيره للآية الأولى -: ذكر كثير من المفسرين "أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة. وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذى صارت الحجابة فى نسله إلى اليوم. وسبب نزولها فيه: حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه.
ثم قال: قال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن فى يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها.
ثم قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين: إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له. فقال: هاك مفتاحك يا عثمان!! اليوم يوم بر ووفاء"
.
هذا ونزول الآية الكريمة فى هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والأمانات: جمع أمانة وهى مصدر سمى به المفعول. فهى بمعنى ما يؤتمن الإِنسان عليه.
والمعنى: إن الله تعالى - يأمركم - أيها المؤمنون - أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله - تعالى - أم للعباد. وسواء كانت فعلية أم قولية أم اعتقادية.
وقد أسند - سبحانه - الأمر إليه تأكيده، اهتماما بالمأمور به، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع فى دائرة الائتمان، وتنبغى المحافظة عليه.
ومعنى أدائها إلى أهلها: توصيلها إلى أصحابها كما هى من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى -.
ومن الآيات القرآنية التى نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله - تعالى -:
{ { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } }. وقوله - تعالى - { { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } }. وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" .
وروى الترمذى وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" .
وقوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم.
وقوله { حَكَمْتُمْ } من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين، وإظهار الحق لصاحبه.
وقوله { بِٱلْعَدْلِ } أى بالحق الذى أوجبه الله عليكم. وأصل العدل: التسوية. يقال: عدل كذا بكذا أى سواه به.
قال الجمل وقوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ } إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير: وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها.
والمعنى: كما أمركم الله - تعالى - أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها، فإنه يأمركم - أيضا - إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل، فإن الله - تعالى - ما أقام ملكه إلا عليهما، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات.
قال بعض العلماء: يرى بعضهم: أن الخطاب فى هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم. ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها، لأن الأمة العزيزة التى تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هى محكومة ومحكمة. فهى التى تختار حاكمها وهى فى هذا محكمة، مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهى محكمة فى حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط فى نقده، ولا تسكن عن نصيحته، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
"الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" .
وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض. قال تعالى -: { { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } }. وقال - تعالى - { { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } }. وقال - تعالى - { { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } }. وقال - تعالى - { { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } }. وأما حديث السنة النبوة عن ذلك فهو أيضا مستفيض. ومن الأحاديث التى ورت فى هذا المعنى ما رواه الإِمام مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور من يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا" .
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به.
وقوله { نِعِمَّا } أصله { نعم ما } فركبت نعم ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين.
و { ما } إما منصوبة موصوفة بقوله { يَعِظُكُمْ } فكأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به. وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل: نعم الشئ الذى يعظكم به.
والمخصوص بالمدح محذوف وهو أداء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل.
والوعظ: التذكير بالخير، والتحذير من الشر، بأسلوب يرق له القلب.
والمعنى: إن الله - تعالى - قد أمركم - يا معشر المؤمنين - بأداء الأمانة، وبالحكم بالعدل، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به، ويدعوكم إليه.
وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وعد للطائعين ووعيد للعاصين.
أى: إن الله - تعالى - كان سميعا لأقوالكم فى الأحكام وفى غيرها. { بَصِيراً } بكل أحوالكم وتصرفاتكم. وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر.
وبعد أن أمر - سبحانه بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل عقب ذلك بأمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وولاة أمورهم فقال - تعالى -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ }.
وطاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان. قال - تعالى -:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } }. ومعنى طاعتهما: التزام أوامرهما، واجتناب نواهيهما.
والمراد بأولى الأمر - على الراجح - الحكام. وطاعتهم إنما تكون فى غير معصية الله، فإذا أمروا بما يتنافى مع تعاليم الدين فلا سمع لهم على الأمة ولا طاعة.
وإنما أمرنا الله - تعالى - بطاعتهم فى غير معصية، لأنهم هم المنفذون لتعاليم الشريعة، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمة التى يقومون على رعاية مصالحها، ولأن عدم طاعتهم يؤدى إلى اضطراب أحواله الأمة وفسادها.
قال صاحب الكشاف: والمراد بـ { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ }: أمراء الحق، لأن - أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله بوجوب الطاعة لهم. وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما فى إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما. والنهى عن أضدادهما كالخلفاء والراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم. فان خالفت فلا طاعة لى عليكم، وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا فى قوله { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } فقال له: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ }.
وقيل هم العلماء الدينيون الذين يعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.
وأعاد - سبحانه - الفعل { أَطِيعُواْ } مع الرسول فقال: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } ولم يعده مع أولى الأمر، للإِشارة إلى استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة حتى ولو كان ما يأمر به ليس منصوصا عليه فى القرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى، وللإِيذان بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من طاعة أولى الأمر.
وقوله { مِنْكُمْ } فى محل نصب على الحال من أولى الأمر أى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر حالة كونهم كائنين منكم أى من دينكم وملتكم.
وفى ذلك إشارة إلى أنه لا طاعة لمن يتحكمون فى شئون المسلمين ممن ليسوا على ملتهم.
وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا ما حدث بينهم اختلاف فى أمر من الأمور الدينية. والمراد بالتنازع هنا: الاختلاف والجدال مأخوذ من النزع بمعنى الجذب. فكأن كل واحد من المختلفين بجذب من غيره الحجة لدليله..
ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم
"ما لى أنازع القرآن" أى ينازعنى غيرى ويجاذبنى فى القراءة. وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءة فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة فى الصلاة خلفه.
والمعنى: فان تنازعتم واختلفتم أيها المؤمنون أنتم وأولوا الأمر منكم فى أمر من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أى فردوا ذلك الحكم أو الأمر الذى اختلفتم فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن تسألوه عنه فى حياته، وترجعوا إلى سنته بعد مماته.
قال القرطبى: قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } أى تجادلتم واختلفتم فى شئ من أمور دينكم { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أى ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال فى حياته، أو بالنظر فى سنته بعد وفاته. وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة. وهو الصحيح.
ومن لم ير هذا اختل إيمانه، لقوله - تعالى { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
وفى قوله { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها.
قال صلى الله عليه وسلم
"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" . أخرجه مسلم.
وروى أبو داود عن أبى رافع عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى ما وجدناه فى كتاب الله اتبعناه" .
وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما فى هذا القرآن ألا وإنى والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن اشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر" .
وقوله { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } شرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين اكتفاء بدلالة المذكور عليه.
أى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإِيمان فارجعوا فيما تنازعتم فيه من أمور دينية إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والجملة الكريمة تحريض للمؤمنين على الامثال لتعاليم الإِسلام وآدابه، لأن الإِيمان الحق يقتضى ذلك.
واسم الاشارة فى قوله: { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } يعود إلى الرد إلى الكتاب والسنة وقوله { تَأْوِيلاً } من آل هذا الأمر إلى كذا أى رجع إليه، فيكون المعنى: ذلك الذى أمرتكم به من رد ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحمد مغبة، وأجمل عاقبة.
ويجوز أن يكون قوله { تَأْوِيلاً } بمعنى التفسير والتوضيح فيكون المعنى:
ذلك أى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحسن تأويلا وتفسيراً من تأويلكم أنتم إياه، من غير رد إلى اصل من الكتاب والسنة. والأول أنسب لسياق الآية الكريمة.
قال ابن كثير: قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ }. الآية هذا أمر من الله - تعالى - بأن كل شئ تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يردوا التنازع فى ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال - تعالى -:
{ { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } }. فما حكم به القرآن والسنة وشهد له بالصحة فهو الحق. ماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال - تعالى -: { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }. أى: ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. فدل على أن من لم يتحاكم فى محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما فى ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقال بعض العلماء: قد يؤخذ من الآية التى معنا أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة. وهى: الكتاب والسنة والإِجماع والقياس.. لأن الأحكام إما منصوبة فى الكتاب أو السنة وذلك قوله: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ }. وإما مجمع عليها من أولى الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه. وذلك قوله { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها. وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس.
فما اثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذى يراه الأحناف دليلا.
وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصالح المرسلة الذى يقول به المالكية، والاستصحاب الذى يقول به الشافعية، كل ذلك إن كان غير هذه الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية، وإن كان راجعا إليها فقد ثبت أن الأدلة أربعة.
ثم انتقل القرآن بعد ذلك إلى الحديث عن المنافقين فكشف عن أحوالهم الذميمة، وطابعهم القبيحة، ونفوسهم المريضة، وحذر المؤمنين من مكرهم وكذبهم، بعد أن حذرهم قبل ذلك من مكر اليهود وأمرهم بالاعتصام بطاعة الله ورسوله. استمع إلى القرآن الكريم وهو يكشف النقاب عن حال هؤلاء المنافقين فيقول: { أَلَمْ تَرَ إِلَى....صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }.