التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً
٦٢
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
٦٣
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
٦٤
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
٦٥
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً
٦٦
وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً
٦٧
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٦٨
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ }... إلخ روايات متقاربة فى معناها ومن ذلك ما أخرجه الثعلبى وابن أبى حاتم من طرق عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا، فدعاه اليهودى إلى التحاكم إلى النبى صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف: ثم إنهما احتكما إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودى، فلم يرض المنافق. وقال: تعالى نتحاكم إلى عمر بن الخطاب.
فقال اليهودى لعمر: قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. قال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد - أى مات -. ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله - تعالى - وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت".
والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حال أولئك المنافقين، وإنكار ما هم عليه من خلق. ذميم وإعراض عن حكم الله ورسوله إلى حكم غيرهما.
وقوله { يَزْعُمُونَ } من الزعم ويستعمل غالبا فى القول الذى لا تحقق معه، كما يستعمل - أيضا - فى الكذب ومنه قوله - تعالى -:
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } أى بكذبهم.
وقد يطلق الزعم على القول الحق.
قال الآلوسى: وقد أكثر سيبويه فى "الكتاب" من قوله: زعم الخليل كذا - فى أشياء يرتضيها.
والمراد بالزعم هنا الكذب لأن الآية الكريمة فى المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون كذبا وزورا أنهم آمنوا بما أنزل إليك من ربك من قرآن كريم، ومن شريعة عادلة، ويزعمون كذلك أنهم أمنوا بما أنزل على الرسل من قبلك من كتب سماوية؟ إن كنت لم تعلم حالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم لتحذرهم ولتحذر أمتك من شرورهم.
فالمقصود من الاستفهام التعجيب من حال هؤلاء المنافقين، وحض النبى صلى الله عليه وسلم وأمته على معرفة مسالكهم الخبيثة، حتى يأخذوا حذرهم منهم.
وفى وصفهم بادعاء الإِيمان بما أنزل على الرسول وبما أنزل على الرسل من قبله تأكيد للتعجيب من أحولاهم، وتشديد للتوبيخ والتقبيح من سلوكهم؛ ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتما للتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما صدر عنهم من هرولة إلى التحاكم إلى غيره.
وقوله: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ } بيان لموطن التعجيب من أحوالهم الغريبة، وصفاتهم السيئة.
والمراد بالطاغوت هنا: ما سوى شريعة الإِسلام من أحاكم باطلة بعيدة عن الحق يأخذها المنافقون عمن يعظمونهم وقيل المراد به: كعب بن الأشرف؛ لأنه هو الذى أراد المنافقون التحاكم إليه، وقد سماه الله بذلك لكثرة طغيانه وعداوته للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يزعمون الإِيمان بما أنزل إليك - يا محمد - وبما أنزل من قبلك، ومع هذا فهم يريدون - عن محبة واقتناع - التحاكم إلى الطاغوت أى إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله.
وقوله { وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } جملة حالية من ضمير يريدون.
أى: يريدون التحاكم إلى الطاغوت والحال أن الله - تعالى - قد أمرهم بالكفر به، وبالانقياد للأحكام التى يحكم بها النبى صلى الله عليه وسلم.
وقوله { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } معطوف على قوله { يُرِيدُونَ } وداخل فى حكم التعجيب، لأن اتباعهم لمن يريد إضلالهم، وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أمر يدعو إلى العجب الشديد.
والمراد بالضلال البعيد: الكفر والبعد عن الحق والهدى.
ووصفه بالبعد للمبالغة فى شناعة ضلالهم، بتنزيله على سبيل المجاز منزلة جنس ذى مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة.
قال ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله - تعالى - على من يدعى الإِيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين. وهو مع ذلك، يريد أن يتحاكم فى فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله.
كما ذكر فى سبب نزول هذه الآية أنها فى رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما. فجعل اليهودى يقول: بينى وبينك محمد. وذاك يقول: بينى وبينك كعب ابن الأشرف. وقيل: فى جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإِسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل. وهو المراد بالطاغوت هنا.
ثم صور - سبحانه - إعراضهم عن الحق، ونفورهم عن شريعة الله - تعالى - فقال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }.
أى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين أقبلوا على حكم الله وحكم رسوله، فإن الخير كل الخير فيما شرعه الله وقضاه، إذا ما قيل لهم ذلك { رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، رأيتم لسوء نواياهم، ولؤم طواياهم { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أى يعرضون عنك - يا محمد - إعراضا شديدا.
وقوله { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ } إغراء لهم بتقبل الحق، وحض لهم على الامتثال لشريعة الله؛ لأنها هى الشريعة التى فيها سعادتهم، ولكنهم لمرض قلوبهم ينفرون من الحكم المنزل من السماء إلى حكم الطاغوت الباطل.
وقال - سبحانك - { رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ } ولم يقل رأيتهم بالإِضمار؛ لتسجيل النفاق عليهم، وذمهم به، وللإِشعار بعلة الحكم اى: رأيتهم لنفاقهم يصدون عنك صدودا.
وقوله { صُدُوداً } مصدر مؤكد بفعله أى: يعرضون عنك إعراضا تاما بحيث لا يريدون أن يسمعوا منك شيئاً، لأن حكمك لا يناسب أهواءهم.
فذكر المصدر هنا للتأكيد والمبالغة فكأنه قيل: صدودا أى صدود.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت علامة جلية من علامات المنافقين حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وهى أنهم إذا ما دعوا إلى حكم الله الذى يزعمون أنهم آمنوا به، أعرضوا عن هذا الحكم إعراضا شديدا، وظهر بذلك كذبهم ونفاقهم.
ثم يعرض القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر نفاقهم عند الشدائد والمحن فيقول: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }.
والفاء فى قوله { فَكَيْفَ } للتفريع. و "كيف" فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا نزلت بهم النوازل، وأصابتهم المصائب بسبب تركهم حكم الله، واتباعهم حكم الطغيان { ثُمَّ جَآءُوكَ } معتذرين عما حدث منهم من قبائح، والحال أنهم { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } كذبا وزورا { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك - يا محمد - إلا إحسانا إلى المتخاصمين، وتوفيقا بينهم حتى لا يتسع الخلاف بينهم، ولم نرد بذلك عدم الرضا بحكمك، فلا تؤاخذنا بما فعلنا.
والاستفهام بكيف هنا للتهويل. أى أن حالهم عندما تصيبهم المصائب بسبب أفعالهم الخبيثة، ويأتون للرسول صلى الله عليه وسلم معتذرين، ستكون حالا بائسة شنيعة مخزية: لأنهم لا يجدون وجها مقبولا للدفاع عما ارتكبوه من قبائح.
والباء فى { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } للسببية. والمراد بما قدمت أيديهم ما اجترحوه من سيئات من أشدها تحكمهم إلى الطاغوت. وعبر عن ذلك بقوله: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }: لأن الأيدى مظهر من مظاهر الإِنسان.
والتعبير بـ "ثم" فى هذا المقام للإِشعار بالتباين الشديد بين إعراضهم وصدودهم إذا ما قال لهم قائل: تعالوا إلى حكم الله... وبين إقبالهم بعد ذلك معتذرين ومقسمين بالأيمان الكاذبة أنهم ما أرادوا بما فعلوا إلا الإِحسان والتوفيق.
وإن ما قاله هؤلاء المنافقون من أعذار بعد أن أصابتهم المصائب. وانكشف أمرهم بين المؤمنين، وصاروا محل الازدراء والنبذ لتحاكمهم إلى الطاغوت. ما قاله هؤلاء - كما حكاه القرآن الكريم - ليشبه ما يقوله منافقو اليوم عندما يتهربون من التحاكم إلى شريعة الله إلى التحاكم إلى غيرها من شرائع الناس. فأنت تراهم إذا ما أحيط بهم، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، اعتذروا بأنهم ما تركوا الحكم بشريعة الله إلى غيرها لا بقصد الإِحسان إلى المتنازعين، والتوفيق بين مختلف الطوائف فى المجتمع حتى لا يغضب من ليسوا مسلمين. ولا شك أن هذه الأعذار لن تغنى عنهم من عذاب الله شيئا، لأنه لا عذر لمن يهجر شريعة الله، ويهرع إلى التحاكم إلى غيرها.
ثم بين - سبحانه - أنه ليس غافلا عن أعمال أولئك المنافقين، وأرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وسائل معالجتهم فقال - تعالى -: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }.
أى: أولئك الذين نافقوا، وأخفوا حقيقة نواياهم السيئة، وتركوا حكم الله إلى حكم الطاغوت... { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من النفاق والميل إلى الكفر، وإن أظهروا إسلامهم.
وقوله { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }... الخ بيان لطرق معالجتهم.
أى: فلا تلتفت إليهم، وغض الطرف عن مسالكهم الخبيثة، ولا تقبل عليهم، لكى يشعروا باستنكارك لأعمالهم.
وقوله { وَعِظْهُمْ }: الوعظ هو التذكير بفعل الخير وترك الشر بأسلوب يرقق القلوب، ويشتمل على الترغيب والترهيب.
أى: ذكرهم بما فى أعمالهم القبيحة من سوء العاقبة لهم، وبما فى تركها من خير جزيل يعود عليهم فى دنياهم وآخرتهم، وأخبرهم بأن تحاكمهم إلى غير شريعة الله سيكون فيه هلاكهم.
وقوله { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أى قل لهم بعد ذلك قولا يبلغ أعماق نفوسهم لقوته وشدة تأثيره. بأن تورد لهم ما تريد أن تخاطبهم به بطريقة تجعلهم يقبلون على قولك.
وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من التعبير البليغ المؤثر، حتى لكأنما القول الذى يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: يودع مباشرة فى الأنفس، ويستقر رأسا فى القلوب.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: بم تعلق قوله: { فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } قلت: بقوله { بَلِيغاً } أى: قل لهم قولا بليغا فى أنفسهم مؤثرا فى قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجد منهم النفاق، واطلع قرنه، وأخبرهم أن ما فى نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وانه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكانة إلا لإِظهاركم الإِيمان وإِسراركم الكفر وإضماره. فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف.
أو يتعلق بقوله { وَقُل لَّهُمْ }. أى: قل لهم فى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا. وإن الله يعلم ما فى قلوبكم. لا يخفى عليه. فلا يغنى عنكم إبطانه.
فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق. وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشرا من ذلك وأغلظ، أو قل لهم فى أنفسهم خاليا بهم، ليس معهم غيرهم. قولا بليغاً يبلغ منهم، ويؤثر فيهم.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أرشدت النبى صلى الله عليه وسلم إلى استعمال ثلاثة طرق لصرف المنافقين عن أفعالهم القبيحة. وهذه الطرق هى الإِعراض عنهم، ووعظم بما يرغبهم فى الخير ويرهبهم من الشر، ومخاطبتهم بالقول البليغ المؤثر الذى يحرك نفوسهم تحريكا قويا، ويجعلهم يقبلون عليه.
وهذه الطرق هى أسمى ألوان الدعوة إلى الله. وأنجع الأساليب فى جلب الناس إلى ما يأخذ بيدهم إلى الخير والفلاح.
ثم بين - سبحانه - أنه ما أرسل رسله إلا ليطاعوا لا ليخالفوا، وأرشد المخالفين إلى ما يجب عليهم فعله للتكفير عن مخالفتهم فقال تعالى:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }.
و { مِن } فى قوله { مِن رَّسُولٍ } زائدة للتأكيد والتعيمم، واللام فى قوله { لِيُطَاعَ } للتعليل، والاستثناء مفرغ من المفعول لأجله.
أى: وما أرسلنا رسولا من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليطاع فيما أمر ونهى وحكم، لا ليطلب ذلك من غيره. فطاعته فرض على من أرسل إليهم. وإنكار فرضيتها كفر.
لأن طاعة الرسول طاعة الله، ومعصيته معصية لله. قال - تعالى -:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } }. وقوله { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أى: بسبب إذنه - سبحانه - فى طاعة رسوله. لأنه هو الذى أمر بهذه الطاعة لرسله.
ويجوز أن يراد بقوله { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أى بتوفيقه - سبحانه - إلى هذه الطاعة من يشاء توفيقه إليها من عباده.
وقوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ }.. الخ بيان لما كان يجب عليهم ان يفعلوه بعد وقوعهم فى الخطأ.
أى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بسبب تحاكمهم إلى الطاغوت، وبخروجهم عن تعاليم الإِسلام، لو انهم بسبب ذلك وغيره { جَآءُوكَ } تائبين توبة صادقة من هذا النفاق؛ { فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ } مما اجترحوه من ذنوب وسيئات { وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ }.
أى. دعوا الله - تعالى - بأن يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم. لو انهم فعلوا ذلك { لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً } أى كثير القبول للتوبة من التائبين { رَّحِيماً } أى كثير التفضيل على عباده بالرحمة والمغفرة.
قال الفخر الرازى: لقائل ان يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح، كانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة فى ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله.
وكان أيضا إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره. فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.
الثاني: أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول، ظهر منهم ذلك التمرد. فاذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار.
الثالث: لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فاذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول.
ثم قال: وإنما قال - سبحانه - { وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ }. ولم يقل واستغفرت لهم: إجلالا للرسول صلى الله عليه وسلم. وأنهم إذا جاءوا من خصه الله برسالته، وأكرمه بوحيه، وجعله سفيرا بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإن الله لا يرد شفاعته، فكانت الفائدة فى العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة.
فالآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام العصاة والمذنبين، وسمت بمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه سموا عظيما.
ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: وقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ }. الآية. يرشد - تعالى - العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم؛ ولهذا قال: { لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }.
وقد جاء عن الإِمام العتبى أنه قال: كنت جالسا عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابى فقال: السلام عليك يا رسول الله!! سمعت الله يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ }. الآية: وقد جئتك مستغفرا لذنبى، مستشفعا بك عند ربى. ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال العتبى: ثم انصرف الأعرابى، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال "يا عتبى الحق الأعرابى فبشره أن الله قد غفر له" .
ثم بين - سبحانه - أن كل من يدعى الإِيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }.
والفاء فى قوله { فَلاَ } للإِفصاح عن شرط مقدر.
و { لاَ } يرى الزمخشرى أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم، فهى كقوله - تعالى -:
{ { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } }. ويرى ابن جرير أنها ليست زائدة، وإنما هى رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإِسلام فقد قال:
"يعنى - جل ثناؤه - بقوله فلا: أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. ثم استأنف القسم - جل ذكره - فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أى: لا يصدقون بى وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم".
وقوله { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.
يقال: شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه. واصله التداخل والاختلاط. ومنه شجر الكلام، إذ دخل بعضه فى بضع واختلط. ومنه الشجر: لتداخل أغصانه.
وقيل للمنازعة تشاجر، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم، وتتعارض دعاويهم، ويختلط بعضهم ببعض.
وقوله { حَرَجاً } أى ضيقا وشكا، وأصل الحرج مجتمع الشئ، ويقال للشجر الملتف الذى لا يكاد يوصل إليه حرج. ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشئ معين.
والمعنى: إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك "لا يؤمنون" إيمانا حقا يقبله الله - تعالى - { حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى: حتى يجعلوك حاكما بينهم، ويلجأوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور، والتبس عليهم منها. { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } بعد ذلك { حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } أى ضيقا وشكا فى قضائك بينهم { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أى: ويخضعوا لحكمك خضوعا تام إلا إباء مع ولا ارتياب.
وفى إضافة الاسم الجليل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله - سبحانك - { وَرَبِّكَ } تكريم للنبى صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وتنويه بمكانته.
وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } هو جواب القسم.
وقوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام. اى: حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا.
وقوله { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبرانى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"والذى نفسى بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" .
هذا، وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخارى عن الزهرى "عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار فى شراج الحرة - أى فى مسيل مياه -.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول الله!! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير. ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"
- والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار -. ثم أرسل الماء إلى جارك.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت فى ذلك { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }.
وهذا السبب الخاص فى نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها فى وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته، وإلى الشريعة التى أتى بها بعد وفاته، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء فى البخارى من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت فى زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعة الله دون سواها.
والمتأمل فى الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث:
أولها: أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته، وإلى شريعته بعد وفاته.
وثانيها: أن يتقبل حكم الشريعة الإِسلامية التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل. قال - تعالى -: { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ }.
وثالثها: أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما فى مظهره وحسه. قال - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. أى يخضوا خضوعا تاما.
فقوله - تعالى - { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } يمثل الانقياد الباطنى والنفسى.
وقوله - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يمثل الانقياد الظاهرى والحسى.
وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث فى النفوس الوجل والخشية، ويحملهم على الإِذعان لأحكام الله - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على الناس، ورحمته بهم. فقال - تعالى -: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً }.
والمراد بقوله { كَتَبْنَا }: فرضنا وأوجبنا.
والمراد (بقتل النفس) تعريضا للهلاك من غير أمل فى النجاة، وقيل: المراد به تعريضها للقتل عن طريق الجهاد.
والمراد بالخروج من الديار: الهجرة فى سبيل الله، والخروج من الأوطان إلى أماكن فيها إستجابة لأمر الله.
قال الفخر الرازى: الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان:
الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد - أنه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه - تعالى - كتب على بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم. فقال - تعالى -: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم، وينكشف كفرهم، فإذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة، فليتركوا النفاق، وليقبلوا الإِيمان على سبيل الإِخلاص. وهذا القول اختيار أبى بكر الأصم والقفال.
الثانى: أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، فلما لم يفعل - سبحانه - ذلك رحمة بعباده، بل اكتفى بتكليفهم بالأمور السهلة، فعليهم أن يقبلوا عليها بإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.
وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق. وأما الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا.
وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين".
وعلى كلا التقديرين: فإن الآية الكريمة تدل على أن الله - تعالى - لم يكلف هذه الأمة إلا بما تستطيعه، لأنه - سبحانه - لو كلف الناس جميعا بالتكاليف الشاقة، لما استطاع أن يقوم بها إلا عدد قليل منهم، وهذا الدين لم يجئ لهذا العدد القليل من الناس وإنما جاء للناس جميعا.
والمراد: أننا لم نكتب على الناس قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم لأننا لو فعلنا ذلك لما استطاعه إلا عدد قليل منهم. وإنما الذى كتبناه عليهم هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لحكمه فى الظاهر والباطن والاستجابة لتوجيهاته فى السر والعلن.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله على هذه الأمة، ورحمته بها، وتحريض الناس على الامتثال لشريعة الله - تعالى -.
والضمير فى قوله { مَّا فَعَلُوهُ } للمكتوب عليهم الشامل للقتل والخروج من الديار. لدلالة قوله { كَتَبْنَا } عليه.
وقوله "قليل" مرفوع على أنه بدل من الواو فى قوله { فَعَلُوهُ } والتقدير: ما فعله أحد إلا قليل منهم. وقرأه ابن عامر بالنصب على الاستثناء. والأول أولى، لأنه استثناء من كلام تام غير موجب فيترجح الرفع.
قال ابن كثير: لما نزلت { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ }.. الآية. قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذى عافانا. فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال:
"إن من أمتى رجالا، الإِيمان أثبت فى قلوبهم من الرواسى" .
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم" - أى: لو فرض ذلك لكان عبد الله بن مسعود من الذين يفعلونه.
"وعن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال: لو أن الله كتب ذلك، لكان هذا من أولئك القليل" .
وقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } بيان للنتائج الطيبة التى تترتب على امتثالهم لأمر الله.
أى: ولو ثبت أن هؤلاء الذين أمرناهم بطاعتنا { فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أى: ما أمرناهم به من اتباع لرسولنا صلى الله عليه وسلم وانقياد لحكمه، لأنه الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى...
لو ثبت أنهم فعلوا ذلك لكان ما فعلوه { خَيْراً لَّهُمْ } فى دنياهم وآخرتهم. ولكان { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لهم على الحق والصواب، وأمنع لهم من الضلال.
ثم بين - سبحانه - ما لهم بعد ذلك من أجر عظيم فقال: { وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }.
أى: وإذا لو ثبتوا على طاعتنا لأعطيناهم من عندنا ثوابا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله - تعالى - ولتقلبناهم وأرشدناهم إلى سلوك الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام الذى باتباعه يسعدون فى دنياهم وآخرتهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله "وإذا" جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا { لآتَيْنَاهُمْ } لأن إذا جواب وجزاء.
وقد فخم - سبحانه - هذا العطاء بعدة أمور منها: أنه ذكر - سبحانه - نفسه بصيغة العظمة { لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ } والمعطى الكريم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة عند الوعد بالعطية، دل ذلك على عظمة تلك العطية.
ومنها: أن قوله { مِّن لَّدُنَّـآ } يدل على التخصيص أى: لآتيناهم من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا. وهذا التخصيص يدل على المبالغة والتشريف، لأنه عطاء من واهب النعم وممن له الخلق والأمر كما فى قوله - تعالى -
{ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } }. ومنها: أنه - سبحانه - وصف هذا الأجر المعطى بالعظمة بعد أن جاء به منكرا، وهذا الأسلوب يدل على أن هذا العطاء غير محدود بحدود، وأنه قد بلغ أقصى ما يتصوره العقل من جلال فى كمه وفى كيفه. { { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } }. هذا، وبذلك ترى أن الآيات الكريمة - من قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }. إلى هنا - قد بينت ما عليه المنافقون من فسوق وعصيان، وحكت معاذيرهم الكاذبة، وصورت نفورهم من حكم الله تصويرا بليغا، وكشفت عن أحوالهم ورذائلهم بأسلوب يدعو العقلاء إلى احتقارهم وهجرهم، وأرشدت إلى أنجع الوسائل لعلاجهم؛ وفتحت لهم باب التوبة حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويطهروا نفوسهم من السوء والفحشاء، ووضحت جانبا من مظاهر اليسر والتخفيف التى تفضل بها - سبحانه - على الأمة الإِسلامية، ووعدت الذين يستجيبون لله ولرسوله بالثواب الجزيل، وتوعدت الذين يتركون حكم الله إلى حكم غيره بالعذاب الأليم، ووصفتهم بعدم الإِيمان.
وقد أفاض بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآيات فى بيان سوء حال من يتحاكم إلى غير شريعة الله، وساقوا أمثلة متعددة لشدة تمسك السلف الصلاح بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قول الفخر الرازى: قال القاضى: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر. وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه - تعالى - قال { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ }. فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به. ولا شك أن الإِيمان بالطاغوت كفر بالله. كما ان الكفر بالطاغوت إيمان بالله.
الثانى: قوله تعالى -: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }.. إلى قوله: { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. وهذا نص فى تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث: قوله - تعالى -
{ { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.
وفى هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإِسلام. سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد. وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد ما نعى الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم.
وقال الشيخ جمال الدين القاسمى: قال ولى الله التبريزى. روى الإِمام مسلم - بسنده - عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم: فقال بلال: والله لمنعنهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول أنت: لنمنعهن"
؟ وفى رواية سالم عن أبيه قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله، وتقول: والله لمنعهن".
وفى رواية للإِمام أحمد أنه ما كلمه حتى مات.
فأنت ترى أن ابن عمر - رضى الله عنه - لشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب لله ورسوله. وهجر فلذة كبده، لتلك الزلة.
وقال الإِمام الشافعى: أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابى قال: حدثنى ابن أبى ذئب عن المقبرى عن أبى شريح الكعبى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح:
"من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود" . قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبى ذئب. أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدرى وصاح على صياحا كثيرا ونال منى وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به؟ نعم. آخذ به. وذلك الفرض على وعلى من سمعه. إن الله - تعالى - قد اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه لا مخرج لمسلم. وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.
وقال الإِمام ابن القيم: والذى ندين الله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا رواية ولا غيره. إذ من الممكن أن يسنى الراوى الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم فى ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا فى نفس الأمر. أو يقلد غيره فى فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه...
فالله - تعالى - علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم وجعل شقاوة الدارين فى مخالفته.
وهكذا نرى أن السلف الصالح كانوا يتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد التمسك، ويهجرون كل من خالفها، ولم يقيد نفسه بها.
ثم بين - سبحانه بعد ذلك الثواب العظيم الذى أعده للطائعين من عباده فقال: { وَمَن يُطِعِ...عَلِيماً }.