التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً
٦٩
ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً
٧٠
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: يا فلان مالى أراك محزونا؟ فقال الرجل: يا نبى الله شئ فكرت فيه. فقال ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك. وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبى صلى الله عليه وسلم شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية. { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ }" .. الخ.
قال: فبعث إليه النبى صلى الله عليه وسلم فبشره".
والمعنى: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ } بالانقياد لأمره ونهيه، ويطع { وَٱلرَّسُولَ } فى كل ما جاء به من ربه "فأولئك" المطيعون { مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } بالنعم التى تقصر العبارات عن تفصيلها وبيانها.
وقوله: { مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } بيان للمنعم عليهم الذين سيكون المطيع فى صحبتهم ورفقتهم.
أى: فأولئك المتصفون بتمام الطاعة لله - تعالى - ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يكونون يوم القيامة فى صحبة الأنبياء الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين؛ فبلغوا رسالته ونالوا منه - سبحانه - أشرف المنازل.
وبدأ - سبحانه - بالنبيين لعلو درجاتهم، وسمو منزلتهم على من عداهم من البشر.
وقوله { وَٱلصِّدِّيقِينَ } جمع صديق وهم الذين صدقوا بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا لا يخالجه شك، ولا تحوم حوله ريبة، وصدقوا فى دفاعهم عن عقيدتهم وتمسكهم بها، وسارعوا إلى ما يرضى الله بدون تردد أو تباطؤ.
وقوله { وَٱلشُّهَدَآءِ } جمع شهيد. وهم الذين استشهدوا فى سبيل الله، ومن أجل إعلاء دينه وشريعته.
وقوله { وَٱلصَّالِحِينَ } جمع صالح. وهم الذين صلحت نفوسهم، واستقامت قلوبهم وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم ونحو غيرهم.
هؤلاء هم الأخيار الأطهار الذين يكون المطيعون لله ولرسوله فى رفقتهم وصحبتهم. قال الفخر الرازى: "وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النببين والصديقين... كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول. وأنه لا يجوز. بل المراد كونهم فى الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا: وإذا أرادوا الزيارة والتلاقى قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية.
ثم قال: وقد دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة فى الفضل والعلم إلا هذا الوصف. وهو كون الإِنسان صديقا ولذا أينما ذكر فى القرآن الصديق والنبى لم يجعل بينهما واسطة كما قال - تعالى - فى صفة إدريس
{ { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } }. وقوله - تعالى { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب فى العمل الصالح الذى يوصل المسلم إلى صحبة هؤلاء الكرام.
وقوله { حَسُنَ } فعل مراد به المدح ملحق بنعم. ومضمن معنى التعجب من حسنهم.
واسم الإِشارة { أُولَـٰئِكَ } يعود إلى كل صنف من هذه الأصناف الأربعة وهم النبيون ومن بعدهم.
والرفيق: هو المصاحب الذى يلازمك فى عمل أو سفر أو غيرهما. وسمى رفيقا لأنك ترافقه ويرافقك ويستعين كل واحد منكما بصاحبه فى قضاء شئونه. وهو مشتق من الرفق بمعنى لين الجانب، ولطف المعاشرة.
ولم يجمع، لأن صيغة فعيل يستوى فيها الواحد وغيره.
والمعنى وحسن كل واحد من أولئك الأخيار - وهم الأنبياء ومن بعدهم - رفيقا ومصاحبا فى الجنة لأن رفقة كل واحد منهم تشرح الصدور، وتبهج النفوس.
والمخصوص بالمدح محذوف أى: كل واحد من المذكورين رفيقا أو وحسن المذكورون أو الممدوحون رفيقا، لأن حسن لها حكم نعم.
وقوله { أُولَـٰئِكَ } فاعل حسن. ورفيقا تمييز.
قال صاحب الكشاف وقوله { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا. ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين.
واسم الإِشارة { ذٰلِكَ } فى قوله { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } يعود إلى ما ثبت للمطيعين من أجر جزيل، ومزيد هداية، وحسن رفقة. وهو مبتدأ. وقوله { ٱلْفَضْلُ } صفته، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبره. أى: ذلك الفضل العظيم كائن من الله - تعالى - لامن غيره.
وقوله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } تذييل قصد به الإِشارة إلى أن أولئك الأخيار. الذين قدموا أحسن الأعمال، واستحقوا أفضل الجزاء، وإن لم يعلمهم الناس فإن الله - تعالى - يعلمهم، وقد كافأهم بما يستحقون.
أى: كفى به - سبحانه - عليما بمن يستحق فضله وعطاءه وبمن لا يستحق، فهو - سبحانه - الذى لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه.
وفى هذه الجملة الكريمة حض المسلم على التزود من العمل الصالح، لأنه - سبحانه - ما دام يعلم أحوال عباده وسيحاسبهم على أعمالهم، فجدير بالعاقل أن يرغب فى الطاعة وأن ينفر من المعصية.
هذا، وقد وردت أحاديث كثيرة تشير إلى أن المؤمنين الصادقين سيكونون يوم القيامة مع أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإِمام مسلم فى صحيح
"عن ربيعة بن كعب الأسلمى أنه قال. كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لى. (سل). فقلت أسألك مرافقتك فى الجنة. فقال أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعنى على نفسك بكثرة السجود" .
ومنها ما رواه الإِمام عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية فى سبيل الله، كتب يوم القيامة مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" .
ومنها ما رواه الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" .
قال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة، ما ثبت فى الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال المرء مع من أحب" .
قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المطيعين لله ولرسوله بأحسن البشارات، وأرفع الدرجات.
ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالاستعداد للجهاد فى سبيل الله من أجل إعلاء كلمته، بعد أن أمرتهم قبل ذلك بطاعته وبطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ...فَوْزاً عَظِيماً }.