التفاسير

< >
عرض

لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
٧
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى ما ملخصه: نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى. توفى وترك امرأة يقال لها: أم كُجّة وثلاث بنات له منها؛ فقام رجلان هما أبنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة؛ فأخذا ماله ولم يعطيا أمرأته وبناته شيئا. وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاهما فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدوا. فقال صلى الله عليه وسلم: "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن، فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال: قال علماؤنا: فى هذه الآية فوائد ثلاث:
إحداها: بيان علة الميراث وهى القرابة.
الثانية: عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد.
الثالثة: إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين فى آية المواريث؛ فكأن هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأى الفاسد حتى وقع البيان الشافى".
هذا، ومن العلماء من أبقى هذه الآية الكريمة على ظاهرها، فجعل المراد من الرجال: الذكور البالغين. والمراد من الوالدين: الأب والأم بلا واسطة المراد من الأقربين: الأقارب الأموات الذين يرثهم أقاربهم المستحقون لذلك والمراد من النساء الإِناث البالغات.
والمعنى على هذا الرأى: للذكور البالغين نصيب أى حظ مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمالهم وعماتهم وللاناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن وأمهاتهن وأقاربهن... ألخ.
وبهذا تكون الآية الكريمة قد اقتصرت على بيان أن الإِرث غير مختص بالرجال كما كان الجاهليون يفعلون، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء، ثم جاءت آيات المواريث بعد ذلك فبينت نصيب كل وارث.
قال الإِمام الرازى: ذكر الله - تعالى - فى هذه الآية هذا القدر، وهو أن الإِرث مشترك بين الرجال والنساء - ثم ذكر التفصيل بعد ذلك - فى آيات المواريث -، لأنه - سبحانه - أراد أن ينقلهم عن تلك العادة وهى توريث الرجال دون النساء - قليلا قليلا على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع. فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل. فلهذا المعنى ذكر الله - تعالى - هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل" ومن العلماء من يرى أن المراد بالرجال الصغار من الذكور ومن النساء الصغار من الإِناث، وعلل مراده هذا بأن فيه عناية بشأن اليتامى، وفيه رد صريح على ما تعوده أهل الجاهلية من توريث الكبار من الرجال دون الصغار سواء أكانوا ذكورا أم إناثا. ومنهم من عمهم فى الرجال والنساء فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا سواء أكانوا كبارا أم صغارا. وجعل المراد من النساء الإِناث مطلقا سواء أكن كباراً أم صغاراً.
ويكون المعنى: للذكور نصيب مما تركه الوالدان والأقربون من متاع، وللإِناث كذلك نصيب مما تركه الوالدان والأقربون.
وعليه يكون المقصود من الآية الكريمة التسوية بين الذكور والإِناث فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون.
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثالث أولى، لأنه أعم من غيره، وأشمل فى الرد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من عدم توريثهم للنساء مطلقا ولا للصغار وإن كانوا ذكوراً، ولأنه يشمل سبب نزول الآية نصا، فقد ذكرنا فى سبب النزول أنها نزلت فى شأن بنات أوس بن ثابت وزوجته.
وقد أكد - سبحانه - حق النساء فى الميراث بأن اختار هذا الأسلوب التفصيلى فقال: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } مع أنه كان يكفى أن يقول: للرجال والنساء نصيب، مما ترك الوالدان والأقربون، وذلك للإِيذان بأصالتهن فى استحقاق الارث، وللإِشعار بأنه حق مستقل عن حق الرجال، وأن هذا الحق قد ثبت لهن استقلالا بالقرابة كما ثبت للرجال، حتى لا يتوهم أحد أن حقهن تابع لحقهم بأى نوع من أنواع التبعية.
ثم أكد - سبحانه - هذا الحق مرة أخرى بقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } أى أن حق النساء ثابت فيما تركه المتوفى من مال سواء أكان هذا المتروك قليلاً أم كثيراً، لأن الذكور والإِناث يتساويان فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون حتى ولو كان هذا المتروك شيئاً قليلا.
فقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } عطف بيان من قوله { مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ } لقصد التعميم والتنصيص على أن حق النساء متعلق بكل جزء من المال الذى تركه الوالدان والأقربون ثم أكد - سبحانه - حق النساء فى الميراث مرة ثالثة بقوله { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } لأن قوله { نَصِيباً } منصوب على الاختصاص والاختصاص يفيد العناية.
أى أن لكل من الرجال والنساء نصيبا فيما تركه الوالدان والأقربون، وهذا النصيب قد فرضه الله - تعالى - فلا سبيل إلى التهاون فيه، بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه كاملا غير منقوص؛ لأن الله هو الذى شرعه، ومن خالف شرع الله كان أهلا للعقوبة منه - سبحانه -.
قال صاحب الكشاف: وقوله: { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصب على الاختصاص بمعنى: أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بد لهم من أن يجوزوه ولا يستأثر به بعضهم دون بعض، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله:
{ { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } كأنه قيل: قسمة مفروضة".
هذا، وقد استدل الأحناف بهذه الآية على توريث ذوى الأرحام؛ لأن العمات والخالات وأولاد البنات ونحوهن من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله تعالى: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } الآية". وثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فمستفاد من آيات أخرى كما هو الشأن فى غيرهم.
أما المخالفون للأحناف فيما ذهبوا إليه فيرون أن المراد من الأقربين الوالدان والأولاد ونحوهم وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام. وعلى رأى هؤلاء المخالفين يكون عطف الأقربين على الوالدين من باب عطف العام على الخاص.
كذلك استدل الأحناف بهذه الآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه - قبل استحقاقه - لم يسقط حقه.
ثم أمر الله تعالى عباده بالتعاطف والتراحم، ولا سيما عند تقسيم الميراث، وإعطاء كل ذى حق حقه فقال تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ... }.