التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
٩٤
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات متعددة إلا أنها متقاربة فى المعنى. وقد حكى معظمها الإِمام القرطبى فقال ما ملخصه:
هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين مروا فى سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله - ظنا منه أن المقتول نطق بالشهادتين ليأمن القتل - فلما ذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته.
وقد قيل: إن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط. وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك من بنى مرة من أهل فدك.
وفى سنن ابن ماجه
"عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا فمنح المشركون المسلمين أكتافهم. فحمل رجل من المسلمين على رجل من المشركين بالرمح. فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إنى مسلم. فطعنه فقتله.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما الذى صنعت مرة أو مرتين. فأخبره بالذى صنع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما فى قلبه؟ فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما فى قلبه؟ قال: لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما فى قلبه"
.
ثم قال القرطبى: ولعل هذه الأحوال جرت فى زمان متقارب فنزلت الآية فى الجميع.
والضرب فى الأرض: السير فيها. تقول العرب: ضربت فى الأرض إذا سرت لتجارة أو غزة أو غيره. وكأن السير فى الأرض سمى بذلك؛ لأنه يضرب الأرض برجليه فى سيره. والمراد بالضرب فى الأرض هنا: السفر والسير فيها من أجل الجهاد فى سبيل الله.
وقوله { فَتَبَيَّنُواْ } معناه: فتثبتوا وتأكدوا وتأملوا فيما تأتون وتذرون. وقرأ حمزة "فثبتوا".
قال القرطبى: والسلم والسلم والسلام بمعنى واحد. قال البخارى. وقرئ بها كلها. واختار أبو عبيد "السلام". وخالفه أهل النظر فقالوا؛ السلم هنا أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والاستسلام. كما قال - تعالى -
{ { فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } }. والمعنى: يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق، إذا خرجتم من بيوتكم وسرتم فى الأرض من أجل الجهاد فى سبيل الله وإعلاء كلمته { فَتَبَيَّنُواْ } أى فاطلبوا بيان الأمر فى كل ما تأتون وما تذرون، واحذروا أن تضعوا سيوفكم فى غير موضعها. فإن الأصل فى الدماء الحرمة والصيانة وعدم الاعتداء عليها، وقد حرم الله - تعالى - قتل النفس إلا بالحق.
والتبين والتثبت فى القتل واجب حضراً وسفرا. وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التى نزلت فيها الآية وقعت فى السفر.
وقوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } أى: تأكدوا - أيها المؤمنون - وتثبتوا فى كل أحكامكم وأفعالكم، ولا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم ودينكم فنطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإِسلام. لا تقولوا له لست مؤمنا حقا وإنما قلت ما قلت بلسانك فقط لتأمن القتل. بل الواجب عليكم أن تقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه؛ فإن علم السرائر والبواطن إنما هو لله - تعالى - وحده.
وجملة { لَسْتَ مُؤْمِناً } مقول لقوله { لاَ تَقُولُواْ }: أى لا تنفوا عنه الإِيمان وهو يظهره أمامكم وفى هذا من الفقه - كما يقول القرطبى - باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به، وقد أرسل بذلك إلى قواد جيوشه لأن الذين يقتلون من يطلب الأمان طمعا فى ماله لا يكون جهاده خالصا لله، ولا تكون أعمالهم محل رضا الله - تعالى - ولذا قال - سبحانه -:
{ تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ }. والابتغاء: الطلب الشديد والرغبة الملحة.
وعرض الحياة الدنيا: جميع متاعها وأموالها. وسمى متاع الدنيا عرضا، لأنه مهما كثر فهو زائل غير دام، وعارض غير باق.
قال الراغب: والعرض - بفتح الراء والعين - مالا يكون له ثبات. ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثابت له إلا بالجوهر. وقيل: الدنيا عرض حاضر تنبيها على أنه لا ثابت لها، والمغانم: جمع مغنم ويطلق على ما يؤخذ من مال العدو، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
والمعنى: تثبتوا - أيها المؤمنون - فى كل أقوالكم وأعمالكم، ولا تتعجلوا فى أحكامكم، ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام أو نطق بالشهادتين لست مؤمنا، وإنما فعلت ذلك تقية؛ ثم تقتلونه. مبتغين من وراء قتله متاع الدنيا الزائل، وعرضها الفانى، إن هذا المسلك يتنافى مع الإِيمان الصادق والجهاد الخالص. ومن كان منكم يريد متاع الدنيا فليطلبه من الله وحده - فإن خزائنه لا تنفد، وعطاءه لا يحد - ولا يطلبه عن طريق الاعتداء على من أظهر الإِسلام أو التمس منكم الأمان.
وقوله { تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } حال من فاعل { لاَ تَقُولُواْ } لكن لا على أن يكون النهى راجعا للقيد فقط كما فى قولك: لا تطلب العلم تبتغى به الجاه والتفاخر، بل على أنه راجع إليهما جميعا. أى: لا تقولوا له ذلك ولا تبتلغوا العرض الفانى.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة توبيخهم على حرصهم على متاع الدنيا بطريقة لا تناسب مع الإِيمان الكامل، ومع الهدف الذى خرجوا من أجله: وهو إعلاء كلمة الله تعالى - وضم أكبر عدد من الناس إلى دعوة الحق التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم.
وقوله { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهى عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا بهذا الأسلوب فكأنه قال: لا تعودوا إلى ما فعلتموه من قتل من ألقى إليكم السلام طلبا لما له، فإن الله - تعالى - عنده مغانم كثيرة، وفى مقدوره أن يغنيكم من فضله؛ فالجأوا إلى جنابه وحده، وخصوه بالسؤال، وأخصلوا له العمل.
وقوله { كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ } تعليل للنهى عما قالوه وما فعلوه.
أى: أنتم - أيها المؤمنون - كنتم من قبل مثل ذلك الذى ألقى إليكم السلام، فقد كنتم فى أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من النطق بالشهادتين وتبادل تحية الإِسلام، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال: قوله { كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أول ما دخلتم فى الإِسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت من دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم بالاستقامة والاشتهار بالإِيمان فعليكم أن تفعلوا بالداخلين فى الإِسلام كما فعل لكم، وأن تعتبروا ظاهر الإِسلام فى المكانة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سبيلا إلى استباحة دمه وماله وقد حرمها الله.
فاسم الإِشارة راجع إلى { مِّن } فى قوله: { لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ }.
ويجوز أن يكون اسم الإِشارة راجعا إلى الحالة التى كانوا عليها فى ابتداء إسلامهم. أى كحال هذا الذى يسر إيمانه ويخفيه عن قومه كنتم من قبل.
وقد جرح هذا المعنى ابن جرير فقال ما ملخصه: قوله { كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أى كذلك كنتم تخفون إيمانكم فى وقومكم من المشركين، وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذى قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفيا بدينه منهم { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أى: فرفع منكم ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته...
والذى يبدو لنا أن الاية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين، إلا أن التفسير الأول الذى جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية؛ لأن المقصد الرئيس الذى تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإِسلام وعن الاعتداء عليه. وأمرهم بان يعاملوا الناس بظواهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده.
والفاء فى قوله { فَتَبَيَّنُواْ } فصيحة. أى: إذا كان الأمر كذلك فتبينوا نعمة الله عليكم وداوموا على شكرها، وقيسوا أحوال غيركم بما سبق من أحوالكم، واقبلوا ظواهر الناس بدون فحص عن بواطنهم، ولا تصدروا أحكامكم عليهم إلا بعد التثبت والتأكد من صحتها ولا تشهروا سيوفكم فى وجوههم إلا بعد التأكد من كفرهم وعدوانهم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تحذيرهم من مخالفة أمره.
أى: إن الله مطلع على دقيق الأمور وجليلها، خبير بما تسره نفوسكم وما تعلنه، لا يخفى عليه شئ من ظواهركم وبواطنكم، وسيحاسبكم على كل ذلك، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر.
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حرم قتله؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإِسلام المانع من إهدار دمه وماله وأهله.
كما أخذوا منها وجوب التثبت فى الأحكام وفى الأقوال. وأخذ الناس بظواهرهم حتى يثبت خلاف ذلك.
قال الفخر الرازى: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة فى تحريم قتل المؤمنين. وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف.
وقال بعض العلماء: وقد دلت الآية على حكمة عظيمة فى حفظ الجامعة الدينية، وهى بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه. وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإِيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق. وانظر معاملة النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان فى القلوب فيكتفى أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة. إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم. فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا. ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال { فَتَبَيَّنُواْ } تأكيدا لقوله { فَتَبَيَّنُواْ } المذكور قبله...
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل فى القتل. أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي....غَفُوراً رَّحِيماً }.