التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٢
غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٥
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٦
-غافر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة "غافر" من السور التى افتتحت ببعض الحروف المقطعة، وهو قوله - تعالى -: { حـمۤ }.
وقد ذكرنا آراء العلماء فى تلك الحروف المقطعة بشئ من التفصيل، عند تفسيرنا لسور: البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس..
وقلنا ما خلاصته: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد جئ بها فى افتتاح بعض السور: على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.
فكأنه - سبحانه - يقول لهؤلاء المعاندين والمعارضين فى أن القرآن من عند الله: ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك فى أنه من عند الله - تعالى - فهاتوا مثله، أو عشر سور فى مثله، أو سورة واحدة من مثله، فعجزوا وانقلبوا خاسرين، وثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وقوله - تعالى -: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } جملة من مبتدأ وخبر، أى: هذا الكتاب منزل عليك - أيها الرسول الكريم - من الله - تعالى - وحده، وليس من عند أحد غيره.
ثم وصف - سبحانه - ذاته بثمانى صفات تليق بذاته فقال: { ٱلْعَزِيزِ } أى: الغالب لكل من سواه، من العز بمعنى القوة والغلبة. يقال: عزَّ فلان يعز - من باب تعب - فهو عزيز، إذا كان معروفا بالقوة والمنعة، ومنه قولهم: أرض عزاز إذا كانت صلبة قوية.
{ ٱلْعَلِيمِ } أى: المطلع على أحوال خلقه دون أن يخفى عليه شئ منها.
{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ } أى: ساتر لذنوب عباده، ومزيل لأثرها عنهم بفضله ورحمته.
فلفظ { غَافِرِ } من الغفر بمعنى الستر والتغطية، يقال: غفر الله - تعالى - ذنب فلان غَفْراً ومغفرة وغفرانا، إذا غطاه وستره وعفا عنه.
ولفظ الذنب: يطلق على كل قول أو فعل تسوء عاقبته، مأخوذ من ذنب الشئ، أى: نهايته { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } والتوب مصدر بمعنى الرجوع عن الذنب والتوبة منه. يقال: تاب فلان عن الذنب توبة وتوبتا إذا رجع عنه.
أى: أنه - سبحانه يغفر ذنوب عباده، ويقبل توبتهم فضلا منه وكرما.
قال صاحب الكشاف: ما بال الواو فى قوله { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ }؟
قلت: فيها نكته جليلة، وهى إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأنه لم يذنب. كأنه قال: جامع المغفرة والقبول..
{ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } أى: لمن أشرك به، وأعرض عن الحق الذى جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم { ذِي ٱلطَّوْلِ } أى: ذى الفضل والثواب والإِنعام على من يشاء من عباده.
والطَّول: السعة والغنى والزيادة، يقال: لفلان على فلان طول، أى زيادة وفضل، ومنه الطُّول فى الجسم لأنه زيادة فيه. قال - تعالى -:
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً... } أى: غنى وسعة.
{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أى: لا إله بحق وصدق إلا هو - سبحانه -.
{ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أى: إليه المرجع والمآب يوم القيامة، ليحاسبكم على أعمالكم فى الدنيا.
قال القرطبى: روى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فلما سأل عنه قيل له: تتابع فى هذا الشراب.
فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذى لا إله هو { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ. حـمۤ. تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }.
إلى قوله - تعالى -: { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }.
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا. ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما وصل الكتاب إلى الرجل جعل يقرؤه ويقول: قد وعدنى الله أن يغفر لى، وحذرنى عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته.
فلما بلغ عمر ذلك قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلته فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
ثم هون - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم من شأن الكافرين، وأخبره بأنهم أتفه من أن يغتر بهم فقال: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ }.
والمراد بالجدال هنا: الجدال بالباطل، وأما الجدال من أجل الوصول إلى الحق فمحمود.
وقوله: { فَلاَ يَغْرُرْكَ } جواب لشرط محذوف. والتقلب: التنقل من مكان إلى آخر من أجل الحصول على المنافع والمكاسب.
أى: ما يجادل فى آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته، عن طريق التكذيب بها والطعن فيها.. إلا الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وإذا تقرر ذلك، فلا يغررك - أيها الرسول الكريم - تقلبهم فى البلاد، وتصرفهم فيها عن طريق التجارات الرابحة، وجمع الأموال الكثيرة، فإن ما بين أيديهم من أموال إنما هو لون من الاستدراج، وعما قريب ستزول هذه الأموال من بين أيديهم، وستكون عليهم حسرة..
{ كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أى: قبل هؤلاء الكافرين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق { قَوْمُ نُوحٍ } الذين أغرقناهم بسبب هذا التكذيب لنبيهم.
{ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ } أى: وكذلك الأقوام الآخرون الذين جاءوا من بعد قوم نوح، قد تحزبوا على أنبيائهم، وأجمعوا على تكذيبهم، كما فعل قوم عاد مع نبيهم هود، وكما فعل قوم ثمود مع نبيهم صالح، وكما فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب..
فالضمير فى قوله - تعالى -: { مِن بَعْدِهِمْ } يعود إلى قوم نوح. وأفردهم - سبحانه - بالذكر لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. ولم يزدهم دعاؤه لهم إلا عتوا ونفورا.
وقوله - تعالى -: { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } بيان لما فعله هؤلاء الأقوام الظالمون مع أنبيائهم الذين جاءوا لهدايتهم..
أى: أن هؤلاء الأقوام المجرمين، لم يكتفوا بالتكذيب لأنبيائهم، بل إن كل أمة منهم قد مكرت بنبيها، وأرادت به السوء، وحاولت أن تتمكن منه بالأسر أو بالقتل، وجادلته بالجدال الباطل، لتزيل به الحق الذى جاء به من عند ربه وتبطله.
والتعبير بقوله: { لِيَأْخُذُوهُ } يشعر بأن هؤلاء المجرمين كانوا حريصين على التمكن من إيذاء نبيهم ومن الاعتداء عليه، كما يحرص الشخص على أخذ عدوه وأسره ليفعل به ما يشاء.
وقوله - تعالى -: { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } بيان لما آل إليه مكرهم وجدالهم بالباطل.
أى: هموا بما هموا، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وحاولوا أن يجعلوا رسولهم بمنزلة الأسير فيهم. فكانت نتيجة كل ذلك أن أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، بأن دمرناهم تدميرا فكيف كان عقابى لهم؟ لقد كان عقابا مدمرا، جعلهم أثرا بعد عين، وترك آثار مساكنهم تشهد بهلاكهم واستئصالهم.
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال:
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }.
أى: وكما حقت كلمة ربك - أيها الرسول الكريم - ووجبت بإهلاك الأمم الماضية التى كذبت أنبياءها، وجعلهم وقودا للنار، فكذلك تكون سنتنا مع المكذبين لك من قومك، إذا ما استمروا فى تكذيبهم لك، ولم يعودوا إلى طريق الحق.
فالآيات الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير لمشركى قريش من الاستمرار فى غيهم.
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر رحمته بالمؤمنين، وتكريمهم، فذكر أن حملة عرشه من وظائفهم الاستغفار للمؤمنين، والدعاء لهم بالخير فقال - تعالى -:
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ... }