التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٩
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
١٠
ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
١١
فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
١٢
-فصلت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى ما ملخصه: اعلم أنه - تعالى - لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ... } أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه - تعالى - وبين هذه الأصنام فى الإِلهية والمعبودية، وذلك بأن بين كمال قدرته وحكمته فى خلق السموت والأرض فى مدة قليلة.. والاستفهام فى قوله { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ... } بمعنى الإِنكار، وهو لإِنكار شيئين: الكفر بالله.. وجعل الأنداد له.
والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين على سبيل الإِنكار لأفعالهم: أئنكم لتكفرون بالله - تعالى - الذى خلق الأرض فى يومين.
قال الآلوسى: وإن واللام فى قوله { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } لتأكيد الإِنكار.. وعلق - سبحانه - كفرهم بالاسم الموصول لتفخيم شأنه - تعالى - واستعظام كفرهم به.
واليوم فى المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق، وأريد منه ها هنا الوقت مطلقا، لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها، ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف، ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر، والأقل أنسب بالمقام.
قال سعيد بن جبير - رضى الله عنه - إن الله - تعالى - قادر على أن يخلق هذا الكون كله فى لحظة، ولكنه خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ليعلم خلقه التثبت والتأنى فى الأمور.
وقوله: { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } معطوف على قوله { تكفرون } وداخل معه فى حكم الإِنكار.
والأنداد: جمع ند وهو مثل الشئ يضاده وينافره ويتباعد عنه. وأصله من ند البعير إذا نفر وذهب على وجهه شاردا.
أى: وتجعلون له أمثالا ونظراء تعبدونها من دونه، وتسمونها - زورا وكذبا - آلهة، وجمع - سبحانه - الأنداد باعتبار واقعهم، لأنهم كانوا يعبدون آلهة شتى، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الكواكب.
واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } يعود إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة.
أى: ذلك الموصوف بتلك القدرة الباهرة، رب العالمين جميعا، وخالق جميع المخلوقات، والمتولى لتربيتها دون سواه.
وقوله: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا.. } معطوف على { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ }.
والرواسى: جميع راس من الرسو - بفتح الراء وسكون السين - بمعنى الثبات والاستقرار فى المكان، يقال: رسا الشئ إذا ثبت واستقر. وهو صفة لموصوف محذوف.
أى: وجعل فيها جبالا رواسى من فوقها، لكى تستقر وتثبت، ولا تميد أو تضطرب بكم.
وقال - تعالى -: { مِن فَوْقِهَا } لبيان الواقع، إذ وجود الجبال من فوق الأرض، ومشاهدة الإِنسان لذلك بعينيه، يزيده اقتناعا بقدرة الله - تعالى - الباهرة وحكمته البليغة.
{ وَبَارَكَ فِيهَا } أى: وجعلها مباركة زاخرة بأنواع الخيرات والمنافع، عن طريق الزروع والثمار المبثوثة فوقها، والمياه التى تخرج من جوفها. والكنوز التى تحصل من باطنها.
{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } والأقوات: جمع قوت. والمراد بها أرزاق أهل الأرض وما يصلحهم.
أى: وجعل أقوات أهلها يحتاجون إليها فى معايشهم ومنافعهم، على مقادير محددة معينة، بحيث نشر فى كل قطر من أقطارها أقواتا تناسب أهله، وبذلك يتبادل الناس المنافع فيما بينهم، فيعمر الكون، ويزيد الاتصال والتعارف فيما بينهم.
قال ابن جرير: بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى هذه الآية: والصواب فى القول فى ذلك أن يقال: إن الله - تعالى - أخبر أنه قدر فى الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش. ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } أنه قدر فيها قوتا دون قوت، بل عم الخبر عن تقديره جميع الأقوات..
وقوله - تعالى -: { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } متعلق بمحذوف يدل، عليه ما قبله.
أى: خلق الأرض، وجعل فيه رواسى من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها فى تمام أربعة أيام، فتكون المدة التى خلق فيها الأرض وما عليها أربعة أيام.
وقوله - سبحانه -: { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } تأكيد لما دلت عليه الآية الكريمة من أن خلق كل من الأرض وما فيها وما عليها قد حدث فى أربعة أيام.
قال الآلوسى: وقيدت الأيام الأربعة بقوله: { سَوَآءً } فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة الأيام. أى: - فى أربعة أيام - استوت سواء، أى: استواء.
وقوله - تعالى -: { لِّلسَّآئِلِينَ } متعلق بمحذوف وقع خبر لمبتدأ محذوف، أى: هذا الحصر فى أربعة، كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض، وما فيها..
وقال الجمل فى حاشيته: فإن قيل لم جعلت مدة خلق الأرض بما فيها، ضعف مدة خلق السموات، مع كون السماء أكبر من الأرض وأكثر مخلوقات وعجائب؟
قلت: للتنبيه على أن الأرض هى المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين ومن كثرة المنافع، فزادات مدتها ليكون ذلك أدخل فى المنة على ساكنيها، وللاعتناء بشأنهم وشأنهم - أيضا - زادت مدتها لما فيها من الابتلاء بالمعاصى والمجاهدات والمعالجات..
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته فى خلق السماء، فقال: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ.. }.
ومعنى استوائه - سبحانه - إلى السماء، ارتفاعه إليها بلا كيف أو تشبيه أو تحديد، لأنه - سبحانه - منزه عن ذلك.
والدخان: ما ارتفع من لهب النار. والمراد به هنا: ما يرى من بخار الأرض أو بخار الماء ويصح أن يكون معنى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ }: تعلقت إرادته - تعالى - بخلقها.
قال الآلوسى: قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } أى: قصد إليها وتوجه، دون إرادة تأثير فى غيرها، من قولهم: استوى إلى مكان كذا، إذا توجه إليه لا يلوى على غيره..
وقوله: { وَهِيَ دُخَانٌ } أى أمر ظلمانى، ولعله أريد بها مادتها التى منها تركبت.
وقوله - تعالى -: { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً... } بيان لما وجهه - سبحانه - إليهما من أوامر.
والمراد بإتيانهما: انقيادهما التام لأمره - تعالى -.
أى: فقال - سبحانه - للسماء وللأرض أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد، فأنت يا سماء، أبرزى ما خلقت فيك من شمس وقمر ونجوم.. وأنت يا أرض أخرجى ما خلقت فيك من نبات وأشجار وكنوز.
قال الفخر الرازى: والمقصود من هذا القول: إظهار كمال القدرة، أى: ائتيا شئتما أم أبيتما، كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أم لم تشأ، ولتفعلنه طوعا أو كرها، وانتصابهما على الحال، بمعنى طائعين أو مكرهين..
وقوله: { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } بيان لامتثالهما التام لأمره - تعالى -.
أى: قالتا: فعلنا ما أمرتنا به منقادين خاضعين متسجيبين لأمرك، فأنت خالقنا وأنت مالك أمرنا.
قال القرطبى: وقوله: { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } فيه وجهان: أنه تمثيل لظهور الطاعة منهما، حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما. ومنه قول الراجز:

امتلأ الحوض وقال قطنيمهلاً رويداً ملأت بطني

يعنى: ظهر ذلك فيه.
وقال أكثر أهل العلم: بل خلق الله - تعالى - فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد - سبحانه -.
وجمعهما - سبحانه - جمع من يعقل، لخطابهما بما يخاطب به العقلاء.
ثم فصل - سبحانه - بديع صنعه فى خلق السموات فقال: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ... } أى: ففرغ من خلقهن وتسويتهن على أبدع صورة وأحكم صنع فى مقدار يومين.
والضمير فى قوله { فَقَضَاهُنَّ } إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات، وإما مبهم يفسره ما بعده وهو سبع سموات.
وقوله: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أى: وأوحى فى كل منها ما أراده وما أمر به، وخلق فيها ما اقتضته حكمته من الملائكة ومن خلق لا يعلمه إلا هو - سبحانه -.
وقوله: { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً } أى: وزينا السماء الدنيا أى القريبة منكم - بكواكب مضيئة، وحفظناها حفظا عظيما من الاختلال والاضطراب والسقوط { ذلك } الذى ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض، وخلق ما فيهما.
{ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أى: تقدير الله - القاهر - لكل شئ. والعليم بما ظهر وبما بطن فى هذا الكون.
وقد أخذ العلماء من هذه الآيات الكريمة أن خلق الأرض وما عليها من جبال ومن أقوات للعباد قد تم فى أربعة أيام، وأن خلق السموات كان فى يومين فيكون مجموع الأيام التى خلق الله - تعالى - فيها السموات والأرض وما بينهما ستة أيام.
وقد جاء ذلك فى آيات متعددة، منها قوله - تعالى -:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ... } كما أخذ العلماء منها - أيضا -: أن خلق الأرض متقدم على خلق السموات بدليل قوله - تعالى - بعد حديثه عن خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهى دخان.
وبدليل قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وعلى هذا الرأى سار جمهور العلماء، وردوا على من قال بأن خلق السموات متقدم على خلق الأرض، لأن الله - تعالى يقول فى سورة النازعات: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أى: بسطها.
ردوا عليهم بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين الآيات التى معنا، وبين آيات سورة النازعات فقال: إنه - تعالى - خلق الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسى والأنهار وغيرهما.
أى: أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها كان بعد خلق السماء، وردوا عليهم - أيضا - بأن لفظ "بعد" فى قوله - تعالى -
{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } بمعنى مع أى: والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها.
وردوا عليهم - أيضا - بأنه - تعالى - لما خلق الأرض غير مدحوة، وهى أهل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه قد خلق بالفعل لوجود أصله فيها.
قال بعض العلماء: والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع، - وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى -:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ... } فقوله: { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم } أى: بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذى هو أصلكم.
كما أخذ منها العلماء أن وجود هذا الكون، بتلك الصورة البديعة، المتمثلة فى هذه الأرض وما أقلت. وفى هذه السموات وما أظلت.. من أكبر الأدلة التى تحمل العقلاء على إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله فى هذا الكون، انتقلت السورة إلى تهديد المشركين، وإنذارهم بأن عاقبتهم ستكون كعاقبة الظالمين الذين سبقوهم، فقال - تعالى -:
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً... }.