التفاسير

< >
عرض

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
٢٦
فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٧
ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
٢٨
وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ
٢٩
-فصلت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الجمل ما ملخصه: قوله: { وَقَيَّضْنَا... } أى: سببنا وهيأنا وبعثنا لهم قرناء يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض. والقيضص قشر البيض..
والتقييض - أيضا - التيسير والتهيئة، تقول قيضت لفلان الشئ، أى: هيأته ويسرته له..
والقرناء: جمع قرين، وهو الصديق الملازم للشخص الذى لا يكاد يفارقه، وله تأثير عليه والمراد بما بين أيديهم: شهوات الدنيا وسيئاتها. والمراد بما خلفهم: ما يتعلق بالآخرة من بعث وحساب وثواب وعقاب.
والمعنى: إن حكمتنا قد اقتضت أن نهيئ ونسبب لهؤلاء المشركين قرناء سوء، هؤلاء القرناء يزينون لهم القبيح من أعمال الدنيا التى يعيشون فيها، كما يزينون لهم إنكار ما يتعلق بما خلفهم من أمور الآخرة، كتكذيبهم بالبعث والحساب والجزاء.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وقوله - تعالى -: { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ... } بيان لما ترتب على استجابتهم لقرناء السوء، وانقيادهم لهم انقياد التابع للمتبوع.
أى: وثبت عليهم القول الذى قاله - سبحانه - لإبليس، وتحقق مقتضاه وهو قوله - تعالى -:
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله: { فِيۤ أُمَمٍ } فى محل نصب على الحال من الضمير فى { عَلَيْهِمُ } أى: وثبت عليهم العذاب. حالة كونهم داخلين فى جملة أمم كافرة جاحدة، قد مضت من قبلهم، وهذه الأمم منها ما هو من الجن، ومنها ما هو من الإِنس.
وجملة { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لكفار قريش ولغيرهم من الأمم السابقة التى هلكت على الكفر.
ثم حكى - سبحانه - ما تواصى به المشركون فيما بينهم فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }.
وقوله: { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } من اللغو، وهو الكلام الساقط الذى لا فائدة فيه يقال: لغا فلان فى كلامه يلغو، إذا نطق بكلام ساقط لا خير فيه.
ويبدو أن هذا الكلام قد قاله الزعماء من كفار مكة لأتباعهم، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: قال أبو جهل - لأتباعه - : إذا قرأ محمد فصيحوا فى وجهه، حتى لا يدري ما يقول.
أى: وقال زعماء الكفر لأتباعهم: لا تسمعوا لهذا القرآن الذى يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا تنصتوا إليه، بل ابتعدوا عن قارئيه، والغوا فيه أى: وأظهروا عند قراءته أصواتكم باللغو من القول، كالتشويش على القارئ، والتخليط عليه فى قراءته بالتصفيق وبرفع الصوت بالخرافات والهذيان..
{ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أى: لعلكم بعملكم هذا تتغلبون على المسلمين، وتجعلونهم ينصرفون عن قراءة القرآن.
ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على خوفهم من تأثير القرآن فى القلوب، هذا التأثير الذى حمل كثيرا منهم عند سماعه على الدخول فى الإِسلام ونبذ الكفر والكافرين.
كما يدل على أنهم لعجزهم عن معارضته، وعن الإِتيان بسورة من مثله، لجأوا إلى تلك الأساليب السخيفة، لصرف الناس عن سماع القرآن الكريم.
وقد رد - سبحانه - على فعلهم هذا بما يناسبه من تهديد فقال: { فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
أى: فوالله لنجعلن الذين كفروا بهذا القرآن والذين شوشوا على قارئيه بالصياح والاستهزاء، لنجعلنهم يذوقون العذاب الذى يهينهم، ويحسون به إحساسا أليما. ولنجزينهم فى الآخرة الجزاء المناسب لقبح أعمالهم التى عملوها فى الدنيا.
قال الآلوسى: قوله - تعالى -: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى: جزاء سيئات أعمالهم التى هى فى أنفسها أسوأ، فأفعل للزيادة المطلقة وقيل: إنه - سبحانه - لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوف، وصلة الأرحام وإكرام الضيف.. لأن هذه الأعمال قد حبطت بسبب كفرهم..
وقال الجمل فى حاشيته: وفى هذا تعريض بمن لا يكون عند سماعه لكلام الله خاضعا خاشعا متفكرا متدبرا. وتهديد ووعيد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ ويخلط عليه القراءة، فانظر إلى عظمة القرآن المجيد، وتأمل فى هذا التغليظ والتشديد، واشهد لمن عظمه وأجل قدره، وألقى إليه السمع وهو شهيد، بالفوز العظيم.
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى -: { ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ... } يعود إلى ما تقدم من العذاب الشديد المعد لهؤلاء الكافرين، وهو مبتدأ، وجملة { جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ } خبره وقوله { ٱلنَّارُ } بدل أو عطف بيان.
أى: ذلك العذاب الشديد الذى نذيقه للكافرين جزاء عادل لأعداء الله، وهذا العذاب الشديد يتمثل فى النار التى أعدها - سبحانه - لهم.
وجملة: { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } مؤكدة لما قبلها. أى: لهم فى تلك النار الإِقامة الدائة الباقية المستمرة، فهى بمثابة الدار المهيأة لسكنهم الدائم.
وقوله - سبحانه -: { جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } بيان لحكم الله العادل فيهم.
أى: نجازيهم جزاء أليما بسبب جحودهم لآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق رسلنا.
ثم صور - سبحانه - أحوالهم وهم يتقلبون فى النار وحكى بعض أقوالهم التى يقولونها وهم فى ذلك العذاب الأليم فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } على من أضلوهم.
{ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ... } أى: قالوا يا ربنا أطلعنا على الفريقين اللذين زينوا لنا الكفر والفسوق والعصيان من أفراد الجن والإِنس { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } أى: أرنا إياهم لننتقم منهم، بأن ندوسهما بأقدامنا احتقارا لهم، وغضبا عليهم، ليكونا بذلك فى أسفل مكان من النار، وفى أحقره وأكثرهم سعيرا.
وهكذا تتحول الصداقة التى كانت بين الزعماء والأتباع فى الدنيا، إلى عداوة تجعل كل فريق يحتقر صاحبه، ويتمنى له أسوأ العذاب.
وكعادة القرآن فى المقارنة بين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار، جاء الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين، بعد الحديث عن سوء مصير الكافرين، فقال - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا... }.