التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٦
-فصلت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: إن الذين قالوا بكل صدق وإخلاص ربنا الله - تعالى - وحده، لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته.
{ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } أى: ثم ثبتوا على هذا القول، وعملوا بما يقتضيه هذا القول من طاعة الله - تعالى - فى المنشط والمكره، وفى العسر واليسر، ومن اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فى كل أحواله.
قال صاحب الكشاف: و { ثم } لتراخى الاستقامة عن الإقرار فى المرتبة وفضلها عليه. لأن الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله - تعالى -:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته.
ولقد بين لنا النبى صلى الله عليه وسلم أن الاستقامة على أمر الله جماع الخيرات، ففى صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفى قال:
"قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: قل آمنت بالله ثم استقم.."
وقوله - تعالى -: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } بيان للآثار الطيبة التى تترتب على هذا القول المؤيد بالثبات على طاعة الله - تعالى -:
وتنزل الملائكة عليهم بهذه البشارات يشمل ما يكون فى حياتهم عن طريق إلهامهم بما يشرح صدورهم، ويطمئن نفوسهم، كما يشمل تبشيرهم بما يسرهم عند موتهم وعند بعثهم.
قال الآلوسى: قوله - تعالى -: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } قال مجاهد: عند موتهم وعن زيد بن أسلم: عند الموت، وعند القبر، وعند البعث، وقيل: معنى { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ } يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإِلهام كما أن الكفرة يغريهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح.
والخوف: غم يلحق النفس لتوقع مكروه فى المستقبل.
والحزن: غم يلحقها لفوات نفع فى الماضى.
أى: إن الذين قالوا ربنا الله باعتقاد جازم، ثم استقاموا على طاعته فى جميع الأحوال، تتنزل عليهم من ربهم الملائكة، لتقول لهم فى ساعة احتضارهم وعند مفارقتهم الدنيا، وفى كل حال من أحوالهم: لا تخافوا - أيها المؤمنون الصادقون - مما أنتم قادمون عليه فى المستقبل، ولا تحزنوا على ما فارقتموه من أموال أو أولاد.
{ وَأَبْشِرُواْ } عما قريب، بالجنة التى كنتم توعدون بها فى الدنيا.
ثم يقولون لهم - أيضا - على سبيل الزيادة فى المسرة: { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }.
أى: نحن نصراؤكم على الخير، وأعوانكم على الطاعة فى الحياة الدنيا التى توشكون على مفارقتها، وفى الآخرة التى هى الدار الباقية، سنتلقاكم فيها بالتكريم والترحاب.
{ وَلَكُمْ فِيهَا } أى: فى الدار الآخرة، ما تشتهى أنفسكم، من أنواع الطيبات التى أعدها لكم خالقكم فى جناته.
{ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أى: ما تتمنوه وتطلبونه، فقوله { تَدَّعُونَ } افتعال من الدعاء بمعنى الطلب.
قوله - تعالى -: { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } حال من قوله: { مَا تَدَّعُونَ }، وأصل النزل: ما يقدم للضيف عند نزوله على المضيف من مأكل طيب، ومشرب حسن، ومكان فيه راحته.
أى: لكم فى الدارالآخرة جميع ما تطلبونه وما تدعونه، حال كون هذا المعطى لكم رزقا وضيافة مهيأة لكم من ربكم الواسع المغفرة والرحمة.
ثم سمت السورة الكريمة بعد ذلك بمنازل الذين يقومون بالدعوة إلى الحق بحكمة وإخلاص فقال - تعالى -: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
أى. لا أحد أحسن قولا، وأعظم منزلة، ممن دعا غيره إلى طاعة الله - تعالى - وإلى المحافظة على أداء ما كلفه به.
ولم يكتف بهذه الدعوة لغيره، بل أتبع ذلك بالعمل الصالح الذى يجعل المدعوين يزدادون استجابة له.
{ وَقَالَ }: بعد كل ذلك على سبيل السرور والابتهاج والتحدث بنعمة الله { إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
أى: من الذين أسلموا وجوههم لله - تعالى - وأخلصوا له القول والعمل.
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية، أى: وهو فى نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه.. وهذه الآية عامة فى كل من دعا إلى خير، وهو فى نفسه مهتد.
وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء... والصحيح أن الآية عامة فى المؤذنين وفى غيرهم.
ثم أرشد - سبحانه - إلى ما ينمى روح المحبة والمودة.. بين الداعى والمدعوين بصفة خاصة، وبين المسلم وغيره بصفة عامة، فقال: { وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ }.
أى: ولا تستوى الخصلة الحسنة ولا الخصلة السيئة، لا فى ذواتهما ولا فى الآثار التى تترتب عليهما، إذا الخصلة الحسنة جميلة فى ذاتها، وعظيمة فى الآثار الطيبة التى تنتج عنها، أما الخصلة السيئة فهى قبيحة فى ذاتها وفى نتائجها.
وقوله - تعالى -: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } إرشاد منه - تعالى - إلى ما يجب أن يتحلى به عباده المؤمنون.
أى: ما دامت الخصلة الحسنة لا تتساوى مع الخصلة السيئة، فعليك - أيها المسلم - أن تدفع السيئة إذا جاءتك من المسئ، بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، بأن تقابل ذنبه بالعفو، وغضبه بالصبر، وقطعه بالصلة وفظاظته بالسماحة.
وقوله - سبحانه -: { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } بيان للآثار الجميلة التى تترتب على دفع السيئة بالحسنة.
والولى: هو الصديق المحب الشفيق عليك، من الولى بمعنى القرب.
والحميم: يطلق فى الأصل على الماء الحار.. والمراد به هنا: الصديق الصدوق معك.
أى: أنت إذا دفعت السيئة بالحسنة، صار عدوك الذى أساء إليك، كأنه قريب منك، لأن من شأن النفوس الكريمة أنها تحب من أحسن إليها، ومن عفا عنها، ومن قابل شرها بالخير، ومنعها بالعطاء.
ولما كانت هذه الأخلاق تحتاج إلى مجاهدة للنفس.. عقب - سبحانه - على هذه التوجيهات السامية بقوله: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.
والضمير فى { يُلَقَّاهَا } يعود إلى تلك الخصال الكريمة السابقة، التى على رأسها الدفع بالتى هى أحسن.
أى: وما يستطيع القيام بتلك الأخلاق العظيمة التى على رأسها الدعوة إلى الله ومقابلة السيئة بالحسنة.. إلا الذين صبروا على المكاره وعلى الأذى.
وما يستطيعها - أيضا - إلا صاحب الحظ الوافر، والنصيب الكبير، من توفيق الله - تعالى - له إلى مكارم الأخلاق.
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للمسلم أحكم الطرق، وأفضل الوسائل، التى ترفع درجته عند - خالقه - تعالى -.
ثم أرشد - سبحانه - عباده إلى ما يبعدهم عن كيد الشيطان، فقال: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
والنزغ والنخس والغرز بمعنى واحد. وهو إدخال الإِبرة أو طرف العصا فى الجلد. المراد به هنا: وسوسة الشيطان وكيده للإِنسان.
والمعنى: وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة تثير غضبك، وتحملك على خلاف ما أمرك الله - تعالى - به ... فاستعذ بالله، أى: فالتجئ إلى حماه واستجر به من كيد الشيطان { إِنَّهُ } - سبحانه - هو السميع لدعائك، العليم بكل أحوالك، القادر على دفع كيد الشيطان عنك.
فالآية الكريمة ترشد المؤمن إلى العلاج الذى يحميه من وسوسة الشيطان وكيده، ألا وهو الاستعاذة بالله السميع لكل شئ، العليم بكل شئ القادر على كل شئ.
وبعد هذه البشارات الكريمة، والتوجيهات الحكيمة للمؤمنين.. ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته، فقال - تعالى -:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ... }.