التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
عۤسۤقۤ
٢
كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ
٤
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
٦
-الشورى

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة "الشورى" من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى، وقد سبق أن ذكرنا أن أقرب الأقوال الى الصواب فى المقصود بهذه الحروف، أنها وردت فى افتتاح بعض السور على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك من أنه منزل من عند الله، فهاتوا مثله أو عشر سور من مثله، أو سورة من مثله.. فعجزوا وانقلبوا خاسرين، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى -:
وقد ذكر بعض المفسرين عند تفسيره لهذه السورة آثارا واهية، رأينا أن نذكر بعضها للتنبيه على سقوطها.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: وقد روى الإِمام ابن جرير ها هنا أثرا غريبا عجيبا منكرا، فقال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له - وعنده حذيفة ابن اليمان - أخبرنى عن تفسير قول الله - تعالى -: { حـمۤ عۤسۤقۤ }. فأطرق ابن عباس ثم أعرض عنه.
فقال حذيفة للرجل: أنا أنبئك بها، قد عرفتُ لم كرهها؟ نزلت فى رجل من أهل بيته يقال له: "عبد الإِله" أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار الشرق، تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا. فإذا أذن الله فى زوال ملكهم.. بعث الله على إحداهما نارا ليلا.. ثم بخسف الله - تعالى - بالأخرى فذلك قوله { حـمۤ عۤسۤقۤ }.
يعنى: عزيمة من الله وفتنة وقضاء حُمَّ { حـمۤ }، وعين، يعنى عدلا منه، وسين: يعنى سيكون، وق، يعنى: واقع بهاتين المدينتين..
والكاف فى قوله - تعالى -: { كَذَلِكَ } بمعنى مثل، واسم الإِشارة يعود إلى ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من عقائد وأحكام وآداب.
أى: مثل ما فى هذه السورة الكريمة من دعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، أوحى الله به إليك وإلى الرسل من قبلك، لتبلغوه للناس كى يعتبروا ويتعظوا.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } كلام مستأنف، وارد لتحقيق أن مضمون السورة، موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة، على سائر الرسل المتقدمين فى الدعوة إلى التوحيد والإِرشاد إلى الحق.
والكاف مفعول { يُوحِيۤ } أى: يوحى مثل ما فى هذه السورة من المعانى..
وجئ بقوله: { يُوحِيۤ } بدل { أوحى } للدلالة على استمراره فى الماضى، وأن إيحاء مثله، عادته - تعالى -:
و { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } صفتان له - عز وجل -.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } }. ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى لذاته فقال: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ }.
أى: لقد أوحى الله - تعالى - إليك أيها الرسول الكريم - بهذا القرآن كما أوحى إلى الرسل من قبلك بما شاء من وحى، وهو - سبحانه - العزيز الذى لا يغلبه غالب، الحكيم فى كل أقواله وأفعاله، والذى له جميع ما فى السماوات وما فى الأرض خلقا وملكا وتصرفا.. وهو - سبحانه - { ٱلْعَلِيُّ } أى: المتعالى عن الأشباه والانداد والأمثال والأضداد.
{ ٱلعَظِيمُ } أى: فى ذاته وفى صفاته، وفى أفعاله.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر علو شأنه وكمال عظمته وجلاله فقال: { تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ }.
والفعل { تَكَادُ } مضارع "كاد" الذى هو من أفعاله المقاربة، وقوله { يَتَفَطَّرْنَ } أى: يتشققن. والضمير فى قوله - تعالى -: { مِن فَوْقِهِنَّ } يعود إلى السماوات، باعتبار أن كل سماء تنفطر فوق التى تليها.
وهذا التفطر سببه الخشية من الله - تعالى -، الخوف من جلاله وعظمته فيكون المعنى: تكاد السماوات يتشققن مع عظمهن { مِن فَوْقِهِنَّ } أى: من أعلاهن، خشية ورهبة من عظمته - عز وجل -، كما قال - تعالى -
{ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ويصح أن يكون هذا التفطر سببه، شدة الفرية التى افتراها المشركون على الله - تعالى - حيث زعموا أن لله ولدا، كما قال سبحانه -: { { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } }. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال: { مِن فَوْقِهِنَّ }؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهى: العرش، والكرسى، وصفوف الملائكة، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى، فلذا قال: { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أى: يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية. أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: من تحتهن، من الجهة التى جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ فى ذلك فجعلت مؤثرة فى جهة الفوق. كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التى فوقهن، دع الجهة التى تحتهن.
وقوله - تعالى -: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } مؤكد لما قبله من بيان علو شأنه - عز وجل -، وسمو عظمته وجلاله.
أى: والملائكة ينزهون ربهم - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، خوفا منه - سبحانه -، ورهبة لذاته.
وقوله: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } معطوف على { يُسَبِّحُونَ }. والمراد بمن فى الأرض: المؤمنون بصفة خاصة، لأنهم هم الذين يستحقون ذلك، كما قال - تعالى - فى آية أخرى:
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } }. أى: أن الملائكة ينزهون الله - تعالى - عما لا يليق به. ويطلبون للمؤمنين من أهل الأرض عفو الله - تعالى - ورحمته وغفرانه.
وقوله: { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله.
أى: ألا إن الله - تعالى - وحده، هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحاسبه على ما يفعل محاسب.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المشركين فقال: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }.
أى: والذين اتخذوا من دون الله - تعالى - شفعاء وشركاء ليقربوهم إليه زلفى، الله - تعالى - وحده رقيب عليهم، وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب يوم القيامة، وما أنت - أيها الرسول الكريم - عليهم بحفيظ أو رقيب على أعمالهم، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من إنزال هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما بين أنواعا من الأدلة عن كمال قدرته، ووجوب إفراده بالعبادة والخضوع. ووجوب التحاكم إلى شريعته عند الاختلاف والتنازع. فقال - تعالى -: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً... بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.