التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٤٦
فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ
٤٧
وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٤٨
وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ
٤٩
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
٥٠
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٥١
أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ
٥٢
فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
٥٣
فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٥٤
فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
٥٥
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ
٥٦
-الزخرف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقصة موسى - عليه السلام - مع فرعون ومع بنى إسرائيل، على رأس القصص التى تكرر الحديث عنها فى القرآن الكريم، فى سور متعددة، وذلك لما فيها من مساجلات ومحاورات بين أهل الحق وأهل الباطل، ولما فيها من عبر وعظات لقوم يعقلون.
لقد وردت هذه القصة فى سور: البقرة، والأعراف، ويونس، وهود، والإِسراء، وطه، والقصص، والصافات، وغافر.. ولكن بأساليب متنوعة يكمل بعضها بعضا.
وهنا تبدأ هذه القصة بقوله - تعالى -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
أى: والله لقد أرسلنا نبينا موسى - عليه السلام - { بِآيَاتِنَآ } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، والتى على رأسها اليد والعصا.. وأرسلناه بهذه الآيات { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أى: أشراف قومه فقال لهم ناصحا ومرشدا: إنى رسول رب العالمين إليكم، لآمركم بعبادة الله - تعالى -: وحده، وأنهاكم عن عبادة غيره.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } أى: فحين جاء موسى - عليه السلام - إلى فرعون وملئه بآياتنا الدالة على قدرتنا سارعوا إلى الضحك والسخرية بها، بدون تأمل أو تدبر، شأن المغرورين الجهلاء.
فقوله - تعالى -: { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } جواب { لَمَّا } والتعبير يشير إلى مسارعتهم إلى السخرية والاستخفاف بالآيات التى جاء بها موسى - عليه السلام -، مع أن هذه الآيات كانت تقتضى منهم التدبر والتفكر لو كانوا يعقلون.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } بيان لقسوة قلوبهم، وعدم تأثرها بالآيات والمعجزات.
أى: وما نريهم من آية دالة على صدق نبينا موسى، إلا وتكون هذه الآية أكبر من أختها السابقة عليها، فى الدلالة على ذلك، مع كون الآية السابقة عظيمة وكبيرة فى ذاتها.
والمقصود بالجملة الكريمة، بيان أن هؤلاء القوم لم يأتهم موسى - عليه السلام - بآية واحدة تشهد بصدقه فيما جاءهم به من عند ربه، وإنما أتاهم بمعجزات متعددة، وكل معجزة أدل على صدقه مما قبلها.
ويصح أن يكون المراد وصف الجميع بالكبر، على معنى أن كل واحدة لكمالها فى ذاتها، إذا نظر إليها الناظر، ظنها أكبر من البواقى لاستقلالها بإفادة الغرض الذى جاءت من أجله.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: والغرض بهذا الكلام، أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة فى الأشياء التى تتلاقى فى الفضل. وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير، أن تختلف آراء الناس فى تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا، وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك، ومنه بيت الحماسة:

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهممثل النجوم التى يسرى بها السارى

وقوله - تعالى -: { وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } بيان للمصير السيئ الذى آلو إليه.
أى: وأخذناهم بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصى، بالعذاب الدنيوى الشديد لكى يرجعوا عما هم عليه من كفر وفسوق، ولكنهم لم يرجعوا.
فالمراد بالعذاب هنا العذاب الدنيوى، الذى أشار إليه - سبحانه - بقوله:
{ { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } }. ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن نزل بهم العذاب، فقال: { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ }.
وجمهور المفسرين على أن قولهم هذا، كان على سبيل التعظيم لموسى - عليه السلام - لأنهم كانوا يوقرون السحرة، ويعتبرونهم العلماء.
قال ابن كثير: قوله { يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } أى: العالم... وكان علماء زمانهم هم السحرة، ولم يكن السحر عندهم فى زمانهم مذموما، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص، لأن الحال حال ضرورة منهم إليه، فهى تقتضى تعظيمهم لموسى - عليه السلام -...
و { مَا } فى قوله: { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } مصدرية: أى: بعهده عندك، والمراد بهذا العهد: النبوة. وسميت عهدا، لأن الله - تعالى - عاهد نبيه أن يكرمه بها، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد.
وقوله: { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } مرتب على كلام محذوف.
أى: وحين أخذنا فرعون وقومه بالعذاب، قالوا لموسى - على سبيل التذلل والتعظيم من شأنه - يأيها الساحر الذى غلبنا بسحره وعلمه، ادع لنا ربك بحق عهده إليك بالنبوة، لئن كشف عنا ربك هذا العذاب الذى نزل بنا { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أى إننا لمؤمنون ثابتون على ذلك، متبعون لك فى كل ما تأمرنا به أو تنهانا عنه.
فدعا موسى - عليه السلام - ربه أن يكشف عنهم العذاب، فأجاب الله دعوته بأن كشف عنهم، فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم نقضوا عهودهم، واستمروا على كفرهم، كما قال - تعالى -: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ } أى: فحين كشفنا عنهم العذاب الذى حل بهم { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أى: إذا هم ينقضون عهدهم بالإِيمان فلا يؤمنون. يقال: نكث فلان عهده ونقضه، إذا لم يف به.
ومن سوء أدبهم أنهم قالوا: ادع لنا ربك، فكأن الله - تعالى - رب موسى وحده، وليس ربا لهم.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ...فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } }. ثم حكى - سبحانه - جانبا من طغيان فرعون وفجوره، واستخفافه بعقول قومه فقال: { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ.. } أى: أن فرعون جمع زعماء قومه، وأخبرهم بما يريد أن يقول لهم.
أو أنه أمر مناديا ينادى فى قومه جميعا، ليعلمهم بما يريد إعلامهم به، وأسند - سبحانه - النداء إلى فرعون، لأنه هو الآمر به.
والتعبير بقوله: { فِي قَوْمِهِ } يشعر بأن النداء قد وصل اليهم جميعا ودخل فى قلوبهم.
وقوله - تعالى -: { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ... } حكاية لما قاله فرعون لقومه.
أى: أن فرعون جمع عظماء قومه، وقال لهم - بعد أن خشى إيمانهم بموسى: { يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } بحيث لا ينازعنى فى ذلك منازع، ولا يخالفنى فى ذلك مخالف، فالاستفهام للتقرير.
وفضلا عن ذلك فإن هذه الأنهار التى ترونها متفرعة من النيل تجرى تحت قدمى، أو من تحت قصرى.
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ذلك، وتستدلون به على قوة أمرى، وسعة ملكى، وعظم شأنى فمفعول { تُبْصِرُونَ } محذوف، أى: أفلا تبصرون عظمتى.
و { أَمْ } فى قوله: { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هى المنقطعة المقدرة بمعنى بل التى هى للاضراب، والإِشارة بهذا تعود لموسى - عليه السلام -.
أى: بل أنا خير من هذا الذى هو فقير وليس صاحب ملك أو سطوة أو مال... وفى الوقت نفسه { لاَ يَكَادُ يُبِينُ } أى: لا يكاد يظهر كلامه لعقدة فى لسانه.
ثم أضاف إلى ذلك قوله - كما حكى القرآن عنه: { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ }.
والأسورة: جمع سوار، وهو كناية عن تمليكه، وكانوا إذا ملكوا رجلا عليهم، جعلوا فى يديه سوارين، وطوقوه بطوق من ذهب، علامة على أنه ملكهم.
أى: فهلا لو كان موسى ملكا أو رسولا، أن يحلى نفسه بأساور من ذهب، أو جاء إلينا ومعه الملائكة محيطين به، ومتقارنين معه، لكى يعينوه ويشهدوا له بالنبوة.
ولا شك أن هذه الأقوال التى تفوه بها فرعون، تدل على شدة طغيانه، وعلى عظم غروره، وعلى استغلاله الضخم لغفلة قومه وسفاهتهم وضعفهم.
ورحم الله الإِمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه: وهذا الذى قاله فرعون - لعنه الله - كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى - عليه السلام - بعين كافرة شقية، وقد كان موسى من الجلالة والعظمة والبهاء فى صورة يبهر أبصار ذوى الألباب.
وقوله: { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } افتراء - أيضا - فإنه وإن كان قد أصاب لسانه فى حال صغره شئ من جهة تلك الجمرة، فقد سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه، فاستجاب الله - تعالى - له وفرعون إنما أراد بهذا الكلام، أن يروج على رعيته، لأنهم كانوا جهلة أغبياء..
وقوله - تعالى -: { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } بيان لما كان عليه فرعون من لؤم وخداع، ولما كان عليه قومه من جبن وخروج على طاعة الله - تعالى -.
أى: وبعد أن قال فرعون لقومه ما قال من تطاول على موسى - عليه السلام - طلب منهم الخفة والسرعة والمبادرة إلى الاستجابة لما قاله لهم، فأجابوه إلى طلبه منهم، لأنهم كانوا قوما خارجين على طاعتنا، مؤثرين الغى على الرشد، والضلالة على الهداية..
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال: { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ }.
وقوله: { آسَفُونَا } أى: أغضبونا أشد الغضب، من أسف فلان أسفا، إذا اشتد غضبه و { سَلَفاً } أى: قدوة لمن بعدهم من الكفار فى استحقاق مثل عقوبتهم. وهو مصدر وصف به على سبيل المبالغة، ولذا يطلق على القليل والكثير. يقال: سلفه الشئ سلفا، إذا تقدم ومضى. وفلان سلف له عمل صالح، أى: تقدم له عمل صالح ومنه: الأسلاف، أى: المتقدمون على غيرهم.
أى: فلما أغضبنا فرعون وقومه أشد الغضب، بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان، انتقمنا منهم انتقاما شديدا، حيث أغرقناهم أجمعين فى اليم.
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } أى قدوة لمن بعدهم فى الكفر فى استحقاق مثل عقوبتهم كما جعلناهم { مَثَلاً } أى: عبرة وموعظة { لِّلآخِرِينَ } الذين يعملون مثل أعمالهم..
وبذلك نرى فى هذه الآيات الكريمة، جانبا من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه.
ويتجلى فى هذا الجانب من القصة طغيان فرعون، واستخفافه بعقول قومه، ومجاهرته بالكذب والفجور.. فكانت عاقبتهم جميعا الدمار والبوار.
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن جانب من قصة موسى، إلى الحديث عن جانب من قصة عيسى - عليه السلام - فقال - تعالى -: { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ... وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.