الوسيط في تفسير القرآن الكريم
و { بَلْ } فى قوله - تعالى -: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } للاضراب الإِبطالى، لأن المقصود من الآية الكريمة، نفى إيقانهم بأن خالق السماوات والأرض هو الله، لعدم جريهم على ما يقتضيه هذا الإِيقان، لأنهم لو كانوا موقنين حقا بذلك، لأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة.
فيكون المعنى: إن هؤلاء الكفار لم يكونوا موقنين بأن رب السماوات والأرض وما بينهما هو الله، بل قالوا ما قالوا فى ذلك على سبيل الشك واللعب.
قال الآلوسى: "قوله: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ... } إضراب إبطالى، أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه، وتنوين { شَكٍّ } للتعظيم، أى: فى شك عظيم. { يَلْعَبُونَ } أى: لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان، بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب. وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم... والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم، وإهمال أمرهم..".
والفاء فى قوله - تعالى -: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم.
والارتقاب: الانتظار، وأكثر ما يستعمل الارتقاب فى الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت، وهو مفعول به لارتقب.
قال الآلوسى ما ملخصه: "والمراد بالسماء جهة العلو، وإسناد الإِتيان بذلك إليها من قبيل الإِسناد إلى السبب، لأنه يحصل بعدم إمطارها...".
أى: فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وهى ظلمة تعرض للبصر لضعفه.. وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب.. وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب، ومعناه الحقيقى معروف".
وللمفسرين فى معنى هذه الآية إتجاهات أولها: ما ورد فى الحديث الصحيح من "أن مشركى مكة، لما أصروا على كفرهم وعلى إعراضهم عن الحق، دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف.." فأصابهم القحط والبلاء والجوع..
وكنى عن ذلك بالدخان، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان..
والسبب فيه أن الإِنسان إذا اشتد ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان.
روى البخارى وغيره عن ابن مسعود قال: "إن قريشا لما أبطأت عن الإِسلام، واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان...
فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله: { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ }" .
قال ابن كثير: "وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين، ورواه الإِمام أحمد فى مسنده، وهو عند الترمذى والنسائى فى تفسيرهما، وعن ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة".
وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -. ثم كشف الله عنهم ما كشف ببركة دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم -.
أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه، أن المراد بالدخان، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك، كعلامة من علامات البعث والنشور.
واستدل أصحاب هذا الاتجاه، بأحاديث ذكرها المفسرون.
قال ابن كثير: "وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفارى. قال: أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفته ونحن نتذاكر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال وثلاثة خسوف: خسوف بالمشرق وخسوف بالمغرب، وخسوف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل حيث قالوا".
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى، وقال فى نهايتها: والظاهر أن ذلك يوم القيامة".
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التى ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة، كما جاء فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى، الذى ذكره ابن كثير - رحمه - الله - وقال فى شأنه: تفرد بإخراجه مسلم فى صحيحه.
ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإِمام الطبرى، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين: وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول ابن مسعود، من أن الدخان الذى أمر الله - تعالى - نبيه ان يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم.
وإنما قلت القول الذى قاله ابن مسعود - رضى الله عنه - هو أولى بتأويل الآية، لأن الله - تعالى - توعد بالدخان مشركى قريش.. ولأن الأخبار قد تظاهرت بأن ذلك كائن.
والمعنى: فانتظر يا محمد لمشركى قومك، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذى يحل بهم، بمثل الدخان المبين".
ومنهم - أيضا - الإِمام الآلوسى، فقد قال -رحمه الله -: هذا، والأظهر حمل الدخان على ما روى عنا ابن مسعود، لأن أنسب بالسياق، لما أنه فى كفار قريش، وبيان سوء حالهم".
وقوله - سبحانه -: { يَغْشَى ٱلنَّاسَ } صفة ثانية للدخان، والمراد بهم كفار مكة وأمثالهم ممن أصابه الجوع والبلاء.
أى: ارتقب - أيها الرسول الكريم - يوم تأتى السماء لهؤلاء المشركين بعذاب من صفاته أنه عذاب واضح، يحسونه بحواسهم، ويشعرون به شعورا جليا، ومن صفاته كذلك أنه يحيط بهم من كل جوانبهم، ويجعلهم يتضرعون إلينا ويقولون: { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أى: شديد ألمه، وعظيم هوله.
ثم يقولون - أيضا -: { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أى: يا ربنا أزل عنا هذا العذاب المتمثل فى الجوع والمرض وغيرهما، فإنك إن رفعت عنا ذلك آمنا برسولك - صلى الله عليه وسلم -، واتبعنا دعوته، ولكنهم بعد أن كشف الله - تعالى - عنهم هذا العذاب، نقضوا عهودهم، وأصروا على كفرهم.
ولذا عقب الله - تعالى - على تضرعهم هذا بقوله: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ.. } أى: كيف يتأتى لهم التذكر والاعتبار والاتعاظ...
والحال أنهم { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذى لم يترك بابا من أبواب الخير إلا وأرشدهم إليه، ولم يترك وسيلة من وسائل الهداية إلا وسلكها معهم..
ولكنهم استحبوا العمى على الهدى، ولذا أكد القرآن ذلك فقال: { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ }.
أى: كيف يتعظون والحال أنه قد جاءهم رسول عظيم الشأن، وضح الحق أكمل توضيح. فما كان منهم بعد أن استمعوا إليه، إلا الإِعراض عن دعوته، ولم يكتفوا بهذا الإِعراض والصدود، بل قالوا فى شأنه بجهالة وسوء أدب: { مُعَلَّمٌ } أى: إنسان يعلمه غيره من البشر، وقالوا فى شأنه - أيضا - { مَّجْنُونٌ } أى: مختلط فى عقله.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله عليهم، ورحمته بهم، فقال: { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ }.
أى: إنا بفضلنا ورحمتنا كاشفوا العذاب عنكم كشفا قليلا - أيها المشركون -، ولكنكم لم تقابلوا فضلنا عليكم، ورحمتنا بكم، بالشكر والطاعة بل قابلتم ذلك بالإِصرار على الكفر، والثبات على الجحود.
فالمراد بقوله - تعالى - { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ }: عزمهم وإصراهم على الاستمرار على الكفر، لأنهم لم يوجد منهم إيمان، حتى يتركوه ويعودوا إلى الكفر، وإنما الذى وجد منهم هو الوعد بالإِيمان إذا انكشف عنهم العذاب، فلما انكشف عنهم، نقضوا عهودهم، واستمروا على كفرهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } }.
ثم هددهم - سبحانه - تهديدا ترتعد له القلوب فقال: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }.
وقوله { يَوْمَ } منصوب بفعل مقدر. وقوله { نَبْطِشُ } من البطش بمعنى الأخذ بقوة وعنف. يقال: بطش فلان بفلان يبطش به، إذا نكل به تنكيلا شديدا.
أى: اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ يوم أن نأخذ هؤلاء الكافرين أخذ عزيز مقتدر، حيث ننتقم انتقاما يذلهم ويخزيهم.
وهذا البطش الشديد منا لهم سيكون جزءا منه فى الدنيا، كانتقامنا منهم يوم بدر وسيكون أشده وأعظمه وأدومه عليهم... يوم القيامة.
وبذلك نرى السورة الكريمة بعد أن مدحت القرآن الكريم مدحا عظيما، وبينت جانبا من مظاهر فضل الله - تعالى - على عباده، أخذت فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه، وهددت هؤلاء الأعداء بسوء المصير فى الدنيا، وفى الآخرة.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه، وكيف أن الله - تعالى - أجاب دعاء نبيه موسى، فأهلك فرعون وقومه، ونجى موسى وبنى إسرائيل من شرورهم فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ... مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ }.