التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٥
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦
رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ
٧
لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٨
-الدخان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة "الدخان" من السور المبدوءة بالحروف المقطعة، وقد سبق أن قلنا إن أقرب الآراء إلى الصواب فى معناها: أن الله - تعالى - جاء بها فى أوائل بعض السور للتحدى والتعجيز والتنبيه إلى أن هذا القرآن من عند الله - عز وجل - فكأنه - تعالى - يقول للمكذبين: هذا هو القرآن، مؤلف من كلمات وحروف هى من جنس ما تتخاطبون به، فإن كنتم فى شك فى كونه من عنده - تعالى - فأتوا بسورة من مثله.. فعجزوا وانقلبوا خاسرين، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى -.
والواو فى قوله - تعالى -: { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } للقسم، وجوابه { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ }.
والمراد بالليلة المباركة: ليلة القدر...
أى: وحق هذا القرآن الواضح الكلمات، البين الأسلوب، لقد ابتدأنا إنزاله فى ليلة كثيرة البركات والخيرات.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذه الليلة بأنها مباركة، لزيادة خيرها وفضلها، ولما تتابع فيها من نعم دينية ودنيوية..
ولله - تعالى - أن يفضل بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض وبعض الرسل على بعض.. لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه..
قال الإِمام ابن كثير: "يقول الله - تعالى - "مخبرا عن هذا القرآن الكريم: أنه أنزله فى ليلة مباركة، وهى ليلة القدر، كما قال - تعالى -:
{ { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ.. } وكان ذلك فى شهر رمضان، كما قال - تعالى -: { { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } }.. ومن قال بأنها - أى: الليلة المباركة - ليلة النصف من شعبان - كما روى عن عكرمة - فقد أبعد النَّجعة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان".
هذا وقد فصل بعضهم أدلة من قال بأن المراد بها ليلة القدر، وأدلة من قال بأن المراد بها ليلة النصف من شعبان.
والحق أن المراد بها ليلة القدر، التى أنزل فيها القرآن من شهر رمضان، كما نصت على ذلك آية سورة البقرة التى تقول:
{ { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ... } }. والأحاديث التى أوردها بعضهم فى أن المراد بها ليلة النصف من شعبان، أحاديث مرسلة أو ضعيفة، أو لا أساس لها.. فثبت أن المراد بها ليلة القدر.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } استئناف مبين لمقتضى الإِنزال..
والإِنذار: إخبار فيه تخويف وترهيب، كما أن التبشير إخبار فيه تأمين وترغيب.
أى: أنزلنا هذا القرآن فى تلك الليلة المباركة، أو ابتدأنا إنزاله فيها، لأن من شأننا أن نخوف بكتبنا ووحينا، حتى لا يقع الناس فى أمر نهيناهم عن الوقوع فيه.
وقوله - تعالى -: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } جملة مستأنفة - أيضا - لبيان وجه تخصيص هذه الليلة بإنزال القرآن فيها.
وقوله { يُفْرَقُ } أى: يفصل ويبين ويكتب. و { حَكِيمٍ } أى: ذو حكمة، أو محكم لا تغيير فيه.
أى: فى هذه الليلة المباركة يفصل ويبين ويكتب، كل أمر ذى حكمة باهرة، وهذا الأمر صادر عن الله - تعالى -، الذى لا راد لقضائه، ولا مبدل لحكمه.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ما موقع هاتين الجملتين؟
قلت: هما جملتان مستأنفتان، فسر بهما جواب القسم الذى هو قوله - تعالى -: { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } كأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإِنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه فى هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.
ومعنى { يُفْرَقُ } يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم..".
ثم بين - سبحانه - أن مرد هذه الكتابة والتقدير للأشياء إليه وحده فقال: { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ.. }.
ولفظ { أَمْراً... } يرى بعضهم أنه حال من { كُلُّ أَمْرٍ... } أى: يفرق فى هذه الليلة المباركة كل أمر ذى حكمة، حالة كون هذا الأمر من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا.
ويصح أن يكون منصوبا على الاختصاص، وتنكيره للتفخيم، أى: أعنى بهذا الأمر الحكيم، أمرا عظيما كائنا من عندنا وحدنا. وقد اقتضاه علمنا وتدبيرنا.
وقوله: { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ.. } بدل من قوله: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }.
أى أنزلنا هذا القرآن، فى تلك الليلة المباركة لأن من شأننا إرسال المرسلين إلى الناس، لأجل الرحمة بهم، والهداية لهم، والرعاية لمصالحهم.
وقوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } تعليل لما قبله. أى: فعل ما فعل من إنزال القرآن، ومن إرسال الرسل، لأنه - سبحانه - هو السميع لمن تضرع إليه، العليم بجميع أحوال خلقه.
ثم وصف - سبحانه - ذاته بما يدل على كمال قدرته، ونفاذ إرادته فقال: { رَبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ.. } من هواء، ومن مخلوقات لا يعلمها إلا الله - تعالى -.
{ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } أى: إن كنتم على يقين فى إقراركم حين تسألون عمن خلق السماوات والأرض وما بينهما.
وجواب الشرط محذوف، أى: إن كنتم من أهل الإِيقان علمتم بأن الله الله - تعالى - وحده، هو رب السماوات والأرض وما بينهما.
{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } - سبحانه - { يُحْيِـي } من يريد إحياءه، { وَيُمِيتُ } من يريد إماتته، هو - تعالى - { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }.
أى: هو - سبحانه - الذى تعهدكم بالرعاية والتربية والخلق، كما فعل ذلك مع آبائكم الأولين، الذين أنتم من نسلهم..
ثم بين - سبحانه - أحوال الكافرين، وكيف أنهم عندما ينزل بهم العذاب، يجأرون إلى الله - تعالى - أن يكشفه عنهم. فقال - تعالى -: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ... إِنَّا مُنتَقِمُونَ }.