التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ
٦
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٧
يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٨
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩
مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠
هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
١١
-الجاثية

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالآيات فى قوله - سبحانه -: { تَلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ.. } آيات القرآن الكريم، كما فى قوله - تعالى -: { { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } }. و { تَلْكَ } مبتدأ، و { آيَاتُ ٱللَّهِ } خبر و { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } حال عاملها ما دل عليه { تَلْكَ } من معنى الإِشارة.
وقوله { بِٱلْحَقِّ } حال من فاعل { نَتْلُوهَا } أو من مفعوله، أى: نتلوها محقين، أو ملتبسة بالحق.
أى: تلك - أيها الرسول الكريم - آيات الله - تعالى - المنزلة إليك، نتلوها عليك تلاوة ملتبسة بالحق الذى لا يحوم حوله باطل.
وكانت الإِشارة للبعيد، لما فى ذلك من معنى الاستقصاء للآيات، ولعلو شأنها، وكمال معانيها، والوفاء فى مقاصدها.
وأضاف - سبحانه - الآيات إليه، لأنه هو الذى أنزلها على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفى هذه الإِضافة ما فيها من التشريف لها، والسمو لمنزلتها.
وجعل - سبحانه - تلاوة جبريل للقرآن تلاوة له، للإِشعار بشرف جبريل، وأنه ما خرج فى تلاوته عما أمره الله - تعالى - به، فهو رسوله الأمين، إلى رسله المكرمين.
وقوله - سبحانه -: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } تعجيب من حالهم، حيث أصر هؤلاء الكافرون على كفرهم، مع وضوح البراهين والأدلة على بطلان ذلك.
أى: فبأى حديث بعد آيات الله المتلوة عليك يؤمن هؤلاء الجاهلون؟ إن عدم إيمانهم بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوب الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، دليل على انطماس بصائرهم، واستيلاء العناد والجحود على قلوبهم.
قال الآلوسى: وقوله: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } هو من باب قولهم: أعجبنى زيد وكرمه، يريدون أعجبنى كرم زيد، إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة فى الإِعجاب.
أى: فبأى حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان، ولا آية أدل من هذه الآية.
وقال الواحدى: فبأى حديث بعد حيث الله، أى: القرآن، وقد جاء إطلاقه عليه فى قوله - تعالى -:
{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ.. } وحسن الإِضمار لقرينة تقدم الحديث.
وقوله { وَآيَاتِهِ } عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا.. والفاء فى جواب شرط مقدر، والظرف صفة { حَدِيثٍ }.
ثم هدد - تعالى - هؤلاء المشركين بقوله: { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }.
والويل: لفظ يدل على الشر أو الهلاك. وهو مصدر لا فعل له من لفظه، وقد يستعمل بدون حرف النداء كما هنا، وقد يستعمل معه كما فى قوله - تعالى -:
{ { يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } }. والأفاك: هو الإِنسان الكثير الإِفك وهو أشنع الكذب وأقبحه.
والأثيم: هو الإِنسان المرتكب للذنوب والآثام بقلبه وجوارحه، فهو سيئ الظاهر وسيئ الباطن.
أى: هلاك وعذاب وحسرة يوم القيامة لكل إنسان ينطق بأقبح الأكاذيب ويفعل أسوأ السيئات.
هذا الإِنسان - أيضا - من صفاته أنه { يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ } صباح مساء.
{ ثُمَّ } بعد ذلك { يُصِرُّ } على كفره { مُسْتَكْبِراً } أى: متكبرا عن الإِيمان.
{ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } أى: كأنه لم يسمع هذه الآيات، لأنها لم توافق هواه أو شهواته.
والتعبير بقوله: { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } للتعجيب من حاله، حيث يصر على كفره، بعد سماع ما يدعو إلى التخلى عن الكفر، ويحمل على الدخول فى الإِيمان.
والإِصرار على الشئ: ملازمته وعدم الانفكاك عنه، مأخوذ من الصر - بفتح الصاد - وهو الشد، ومنه صرة الدراهم، لأنها مشدودة على ما بداخلها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى { ثُمَّ } فى قوله: { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً }؟
قلت: كمعناه فى قول القائل، يرى غمرات الموت ثم يزورها.
زذلك أن غمرات الموت خليقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفرار عنها.
وأما زيارتها والإِقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد، فمعنى { ثُمَّ }: الإِيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها وعاينها، شئ يستبعد فى الغايات والطباع.
وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها: كان مستبعدا فى العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإِيمان بها.
وقوله - تعالى -: { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } تهكم بهذا الأفاك الأثيم.. واستهزاء به. لأن البشارة فى الأصل إنما تكون من أجل الخبر السار، الذى تتهلل له البشرة.
أى: فبشره بعذاب أليم، بسبب إصراره على كفره، واستحبابه العمى على الهدى.
ثم بين - سبحانه - صفة أخرى من صفات هذا الأفاك الأثيم فقال: { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً }.
أى: وإذا بلغ هذا الإِنسان شئ من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، بادر إلى الاستهزاء بها والسخرية منها، ولم يكتف بالاستهزاء بما سمعه، بل استهزأ بالآيات كلها لرسوخه فى الكفر والجحود.
والتعبير بقوله: { وَإِذَا عَلِمَ } زيادة فى تحقيره وتجهيله، لأن اتخاذه الآيات هزوا بعد علمه بمصدرها، يدل على إيغاله فى العناد والضلال.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بيان لسوء عاقبته. أى: أولئك الذين يفعلون ذلك لهم فى الآخرة عذاب يهينهم ويذلهم، ويجعلهم محل سخرية العقلاء واحتقارهم. { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } أى: من قدامهم جهنم لأنهم يوجهون إليها بعد موتهم، أو هى من خلفهم لأنهم معرضون عنها، ومهملون لما يبعدهم عن دخولها.
والوراء: اسم يستمعل بمعنى الأمام والخلف، لأنه يطلق على الجهة التى يواريها الشخص فتعم الخلف والأمام.
{ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } أى: ولا يدفع عنهم ما كسبوه فى الدنيا من أموال شيئا من العذاب، ولو كان هذا الشىء يسيرا، كما قال - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } }. فقوله { وَلاَ يُغْنِي } من الغناء - بفتح الغين - بمعنى الدفع والنفع، ومنه قول الشاعر:

وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثا وواراك لاحد

{ وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ } أى: ولا يغنى عنهم - أيضا - ما اتخذوه من دون الله - تعالى - من معبودات باطلة.
و { مَّا } فى قوله { مَّا كَسَبُواْ } و { مَا ٱتَّخَذُواْ } موصولة والعائد محذوف. ويصح أن تكون فى الموضعين مصدرية.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } لا يعلم مقدار شدته وهوله إلا الله - تعالى - وحده.
والإِشارة فى قوله - تعالى - { هَـٰذَا هُدًى } تعود إلى القرآن الكريم. والهدى مصدر هداه إلى الشئ إذا دله وأرشده إليه.
أى. هذا القرآن الذى أوحيناه إليك يا محمد، فى أعلى درجات الهداية وأكملها.
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الدالة على وجوب إخلاص العبادة له.
{ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } والرجز: يطلق على أشد أنواع العذاب..
أى: لهم أشد أنواع العذاب، وأكثره إيلاما وإهانة.
وجمهور القراء قرأ { أليم } بالخفض على أنه نعت لقوله { رِّجْزٍ } وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { أليم } بالرفع، على أنه صفة لعذاب.
وهذه الآيات تهديد لكل من كانت فيه هذه الصفات التى منها: كثرة الكذب، وكثرة اقتراف السيئات، والإِصرار على الباطل.. ويدخل فى هذا التهديد دخولا أوليا، النضر بن الحارث، الذى كان يشترى أحاديث الأعاجم ليشغل بها الناس عن سماع القرآن، والذى قيل إن هذه الآيات قد نزلت فيه.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد هذا التهديد الشديد للأفاكين.. إلى بيان جانب من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على عباده، ودعت المؤمنين إلى الصبر والصفح، فقال - تعالى -: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ.... ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }.