التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٢١
وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٢
أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٣
وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٦
-الجاثية

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

و { أَمْ } فى قوله - تعالى -: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } منقطعة، وتقدر ببل والهمزة، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثانى، والهمزة لإِنكار الحسبان.
والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التى يكتسب بها كالأيدى. ويقال: فلان جارحة أهله، أى: هو الذى يكتسب لهم أرزاقهم.
وحسب: فعل ماض، والذين فاعله، وجملة { أَن نَّجْعَلَهُمْ } ساد مسد المفعولين.
والمعنى: بل أحسب الذين اكتسبوا ما يسوء من الكفر والمعاصى، أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات فى دار الدنيا أو فى الدار الآخرة؟
كلا!! لا يستوون فيهما، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحيون فى الدنيا حياة طيبة لا مكان فيها للهموم والأحقاد والإِحن ببركة إيمانهم، وفى الآخرة ينالون رضا الله - تعالى - وحسن ثوابه.
أما الذين اجترحوا السيئات فهم فى شقاء فى الدنيا وفى الآخرة.
قال الشوكانى قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدم. والمبتدأ محياهم ومماتهم. والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء.
وقرأ حمزة والكسائى وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر فى الجار والمجرور فى قوله: { كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أو على أنه معفول ثان لحسب.
وقوله: { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى بئس حكما حكمهم الذى زعموا فيها تسويتنا بين الذين اجترحوا السيئات، والذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة، توبيخهم على أحكامهم الباطلة، وأفكارهم الفاسدة.
قال الآلوسى: قوله: { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى: ساء حكمهم هذا، وهو الحكم بالتساوى، فما مصدرية، والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود.
ويجوز أن يكون لإِنشاء ذمهم على أن { سَآءَ } بمعنى بئس، فتكون كلمة { مَا } نكرة موصوفة، وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أى: بئس شيئا حكموا به ذلك.
ثم أكد - سبحانه - عدم المساواة بين الفريقين فقال: { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أى خلقهما خلقا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل.
وقوله { وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } معطوف على مقدر يفهم من سياق الكلام.
أى: خلقهما بالحق ليبرهن بذلك على وحدانيته وقدرته. ولتجزى كل نفس يوم القيامة بسبب ما اكتسبته من أعمال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله { بِٱلْحَقِّ }. أى: خلقهما بالحق المقتضى للعدل بين العباد، ولتجزى كل نفس بما كسبت، فهو منعطف المسبب على السبب.
{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أى: الخلائق المدلول عليهم بقوله { كُلُّ نَفْسٍ } لا يلحقهم شئ من الظلم يوم القيامة، لأن الله - تعالى - قد كتب على نفسه أنه لا يظلم أحدا.
والاستفهام فى قوله - سبحانه -: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } للتعجب من حال هؤلاء المشركين، ولتسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من أذى.
والمراد بهواه: ما يستحسنه من تصرفات، حتى ولو كانت تلك التصرفات فى نهاية القبح والشناعة والجهالة.
والمعنى: انظر وتأمل - أيها الرسول الكريم - فى أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم، مهما كان قبح تصرفهم، وانحطاط تفكيرهم، وخضعوا له كما يخضع العابد لمعبوده.
قال ابن عباس: كان الرجل فى الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا. فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثانى وترك الأول.
وقوله: { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } أى: وأضل الله - تعالى - هذا الشقى، بأن خلق فيه الضلالة، على علم منه - سبحانه - بأن هذا الشقى أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى.
فيكون قوله { عَلَىٰ عِلْمٍ } حال من الفاعل، أى أضله - سبحانه - حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال.
ويصح أن يكون حالا من المفعول، أى: وأضل الله - تعالى - هذا الشقى، والحال أن هذا الشقى عالم بطريق الإِيمان، ولكنه استحب الغى على الرشد.
وقوله { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } والختم: الوسم بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشئ، وطبعه فيه للاستيثاق، لكى لا يخرج منهما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه.
أى: وطبع على سمعه وقلبه، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده.
{ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أى: وجعل على بصره غطاء، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء وأصل الغشاوة ما يغطى به الشئ، من غشاه إذا غطاه.
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } للإِنكار والنفى.
أى: لا أحد يستطيع أن يهدى هذا الإِنسان الذى اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله - عز وجل -.
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أى: أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر، تفكرا يهديكم إلى الرشد، ويبعثكم على الإِيمان.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين، وتعجيب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الجهالة والضلالة. ودعوة لهم إلى التذكير والاعتبار، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإِيمان.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أقوالهم الباطلة فقال: { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ }.
أى: وقال هؤلاء المشركون على سبيل الجهل والعناد والجحود للحق، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التى نحياها فيها، وليس هناك حياة سواها، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من بعدنا أو يموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن معين، أو نكون أمواتا فى أصلاب آبائنا، ثم نحيا بعد ذلك عند الولادة.
{ وَمَا يُهْلِكُنَآ } عند انتهاء آجالنا { إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أى: إلا مرور الزمان، وكر الأعوام وتقلب الشهور والأيام.
قال ابن كثير ما ملخصه "يخبر - تعالى - عن قول الدهرية من الكفار، ومن وافقهم من مشركى العرب فى إنكار المعاد: { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا... } أى: ما ثَمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعش آخرون، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة..
ولهذا قالوا: { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } - أى: إلا مرور الأيام والليالى - فكابروا المعقول وكذبوا المنقول...
وفى الحديث الصحيح - الذى رواه الشيخان وغيرهما - عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يقول الله - تعالى -: يؤذينى ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدى الأمر، أقلب ليله ونهاره" .
والمقصود من هذا الحديث النهى عن سب الدهر، لأن الله - تعالى - هو الخالق له، فمن يسب الدهر، فكأنما سب الله - تعالى - لأنه - سبحانه - هو الذى يقلب الليالى والأيام.
وقد كان العرب فى الجاهلية إذا ما أصابتهم شدة أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال والمصائب إلى الدهر ويسبونه.
وقوله - تعالى -: { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } رد عليهم فيما قالوه من أقوال باطلة تتعلق بإنكارهم للبعث والحساب.
أى: وليس لهم فيما زعموه من إنكارهم للبعث من علم مستند إلى نقل أو عقل، إن هم إلا يظنون ظنا مبنيا على الوهم والضلال.
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أى: وإذا تليت عليهم آيات القرآن، الواضحة فى دلالتها على أن يوم القيامة حق، وأن الحساب حق.
{ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أى: ما كان ردهم على من يذكرهم بالبعث إلا أن قالوا لهم: أعيدوا إلينا آباءنا الذين ماتوا إن كنتم صادقين فى قولكم: إن هناك بعثا وحسابا وثوابا وعقابا.
وقوله { حُجَّتَهُمْ } - بالنصر - خبر كان، واسمها قوله: { إِلاَّ أَن قَالُواْ }.
وسمى - سبحانه - أقوالهم مع بطلانها حجة، على سبيل التهكم بهم، والاستهزاء بهذه الأقوال.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟
قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته، وساقوه مساقها، فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه فى حسبانهم وتقديرهم حجة، أو لأنه فى أسلوب قول القائل:
تحية بينهم ضرب وجيع.. كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.
والمراد: نفى أن تكون لهم حجة ألبتة.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أى: وأنتم فى الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم فى الدنيا، { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بأن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء، وهذا اليوم وهو يوم القيامة آت { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ولا شك فى حدوثه.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك، لاستيلاء الهوى والشيطان على قلوبهم، ولو عقلوا لعلموا أن من أنشأ الإِنسان من العدم، قادر على إعادته بعد موته من باب أولى.
ثم أخذت السورة الكريمة فى أواخرها فى تذكير الناس بأهوال يوم القيامة لكى يستعدوا للقاء هذا اليوم بالإِيمان والعمل الصالح، فذكرتهم بأحوال الأخيار والأشرار فى هذا اليوم العصيب، وبينت لهم أن الندم لن ينفع فى هذا اليوم.. فقال - تعالى -: { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.