التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
٢
مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ
٣
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ
٥
وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
٦
-الأحقاف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة "الأحقاف" من السور التى افتتحت ببعض الحروف الهجائية، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معناها أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى به الله - تعالى - المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبةً فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن كل ذلك فإن تصدير بعض السور، يمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إلى الإِنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة بألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم.
وذلك مما يلفت أنظارهم، ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وحججا ومواعظ من شأنها أنها تهديهم إلى الحق، لو كانوا يعقلون.
وقد سبق أن بينا - بشئ من التفصيل - آراء العلماء فى هذه الحروف المقطعة.
وقوله - تعالى -: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } بيان لمصدر هذا القرآن، وأنه من عند الله - تعالى -، لا من عند غيره.
أى: أن هذا القرآن منزل من عند الله - تعالى - { ٱلْعَزِيزِ } أى: صاحب العزة الغالبة، والسلطان القاهر { ٱلْحَكِيمِ } فى كل أقواله وأفعاله وتصريفه لشئون خلقه.
ثم بين - سبحانه - أنه لم يخلق هذا الكن عبثا، فقال: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى... }.
وقوله: { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } استثناء مفرغ من أهم الأحوال، وهو صفة لمصدر محذوف، وقوله: { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } معطوف على "الحق" والكلام على تقدير مضاف محذوف.
أى: ما خلقنا هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله، ما خلقنا كل ذلك إلا خلقا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل وبالحكمة التى اقتضتها إرادتنا ومشيئتنا.
وما خلقنا كل ذلك - أيضا - إلا بتقدير أجل معين، هو يوم القيامة الذى تفنى عنده جميع المخلوقات.
فالمراد بالأجل المسمى: يوم القيامة الذى ينتهى عنده آجال الناس، ويقفون بين يدى الله - تعالى - للحساب والجزاء.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } }. وقوله - سبحانه -: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ... } }. ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من خالقهم فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ }. والإِنذار: الإِعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار.
و "ما" فى قوله: { عَمَّآ أُنذِرُواْ } يصح أن تكون موصولة والعائد محذوف، ويصح أن تكون مصدرية.
والإِعراض عن الشئ: الصدود عنه، وعدم الإِقبال عليه، وأصله من العُرْض - بضم العين - وهو الجانب، لأن المعرض عن الشئ يعطيه جانب عنقه، مبتعدا عنه.
أى: نحن الذين خلقنا بقدرتنا وحكمتنا، السماوات والأرض وما بينهما، بالحق الذى اقتضته مشيئتنا، وبتقدير أمد معين، عند انتهائه
{ { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } } ومع كل هذه الدلائل الساطعة الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، فالذين كفروا بالحق، عن الذى أنذروه من الحساب والجزاء معرضون، وفى طغيانهم يعمهون..
فالآية الكريمة قد وضحت أن هذا الكون لم يخلقه الله - تعالى - عبثا، وأن لهذا الكون نهاية ينتهى عندها، وأن الكافرين - لجهلهم وعنادهم - لم يستجيبوا لمن دعاهم إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار، ولم يستعدوا لاستقبال يوم القيامة بالإِيمان والعمل الصالح.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ هؤلاء الكافرين على جهالاتهم وعنادهم، فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... }.
وقوله: { أَرَأَيْتُمْ } بمعنى أخبرونى، ومفعوله الأول قوله { مَّا تَدْعُونَ } وجملة "ماذا خلقوا" سدت مسد مفعوله الثانى.
وجملة: "أرونى" مؤكدة لقوله: { أَرَأَيْتُمْ } لأنها - أيضا - بمعنى أخبرونى.
والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتأنيب -: أخبرونى عن هذه الآلهة التى تعبدونها من دول الله - تعالى -، أى شئ فى الأرض أوجدته هذه الآلهة؟ إنها قطعا لم تخلق شيئا من الأرض. فالأمر فى قوله { أَرُونِي } للتعجيز والتبكيت.
و "أم" فى قوله { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } للإِضراب عن أن يكونوا قد خلقوا شيئا، إلى بيان أنهم لا مشاركة لهم مع الله فى خلق السماوات أو الأرض أو غيرهما. فقوله: { شِرْكٌ } بمعنى مشاركة..
أى: بل ألهم مشاركة من الله - تعالى - فى خلق شئ من السماوات؟ كلا، لا مشاركة لهم فى خلق أى شئ، وإنما الخالق لكل شئ هو الله رب العالمين.
فالاستفهام للتوبيخ والتقريع.
فالمراد من الآية الكريمة نفى استحقاق معبوداتهم لأى لون من ألوان العبادة بأبلغ وجه، لأن هذه المعبودات لا مدخل لها فى خلق أى شئ لا من العوالم السفلية ولا من العوالم العلوية، وإنما الكل مخلوق لله - تعالى - وحده.
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } }. وبعد أن أفحمهم - سبحانه - من الناحية العقلية، أتبع ذلك بإفحامهم بالأدلة النقلية، فقال - تعالى -: { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
والأمر فى قوله - تعالى - { ٱئْتُونِي } للتعجيز والتهكم - أيضا - كما فى قوله: { أَرُونِي }.
وقوله: { أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أى: بقية من علم يؤثر عن الأولين، وينسب إليهم.
قال القرطبى: وفى الصحاح: "أو أثارة من علم" أى: بقية منه. وكذلك الأَثَرة - بالتحريك - ويقال: سمنت الإِبل على أثارة، أى: على بقية من شحم كان فيها قبل ذلك..
والأثارة: مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأَثَر، وهى الرواية، يقال: أثرتُ الحديث آثَرُه أَثْراً وأَثَارةً وأَثْرةً فأنا آثِر، إذا ذكرته من غيرك، ومنه قيل: حديث مأثور، أى نقله الخلق عن السلف.
أى: هاتوا لى - أيها المشركون - كتابا من قبل هذا القرآن يدل على صحة ما أنتم عليه من شرك، فإن لم تستطيعوا ذلك - ولن تستطيعوا -، فأتونى ببقية من علم يؤثر عن السابقين، ويسند إليهم، ويشهد لكم بصحة ما أنتم فيه من كفر.
{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه من أنكم على الحق.
وهكذا أخذ عليهم القرآن الحجة، وألزمهم ببطلان ما هم عليه من ضلال، بالأدلة العقلية المتمثلة فى شهادة هذا الكون المفتوح، وبالأدلة النقلية المتمثلة فى أنه لا يوجد عندهم كتاب أو ما يشبه الكتاب. يستندون إليه فى استحقاق تلك المعبودات للعبادة.
والحق أن هذا الآية الكريمة على رأس الآيات التى تخرس أصحاب الأقوال التى لا دليل على صحتها، وتعلم الناس مناهج البحث الصحيح الذى يوصلهم إلى الحق والعدل..
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين قد بلغوا الذروة فى ضلالهم وجهلهم فقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }.
أى: لا أحد أشد ضلالا وجهلا من هؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون الله - تعالى - آلهة، هذه الآلهة لا تسمع كلامهم، ولا تعقل نداءهم، ولا تشعر بعبادتهم لها منذ أن عبدوها، إلى أن تقوم الساعة.
فإذا ما قامت الساعة، تحولت هذه الآلهة - بجانب عدم شعورها بشئ إلى عدوة لهؤلاء العابدين لها.
قال بعض العلماء: وفى قوله: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها. لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم فى يوم القيامة لا يستجيبون لهم.
فالوجه - والله أعلم - أنها من الغايات المشعرة، بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثانى، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا، لتفاوت ما بينهما كالشئ وضده، وذلك أن الحالة الأولى التى جعات غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التى فى القيامة زادت على الاستجابة، بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم.
ثم أكد - سبحانه - عدم إحساس الأصنام بعابديها فقال: { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ }.
أى: وهذه الاصنام عن عبادة عابديها غافلة، لا تدرك شيئا، ولا تحس بمن حولها.
قال صاحب الكشاف: وإنما قيل "من" و "هم" لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة.
ويجوز أن يريد: كل معبود من دون الله من الجن والإِنس والأوثان.
ثم بين ما يكون بين العابدين والمعبودين من عداوة يوم القيامة فقال: { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }.
أى: وإذا جمع الله - تعالى - الناس للحساب والجزاء يوم القيامة، صار الكفار مع من عبدوهم من دون الله أعداء، يلعن بعضهم بعضا، { وَكَانُواْ } أى: المعبودن { بِعِبَادَتِهِمْ } أى بعبادة الكفر إياهم { كَافِرِينَ } أى: جاحدين مكذبين.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }.
وقوله - سبحانه -:
{ { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } }. ثم لقن الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أجوبه أخرى، ليرد بها على الأقوال الزائفة التى تفوه بها المشركون فقال - تعالى -: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا... ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }.