التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
١٠
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ
١١
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
١٢
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
١٣
-محمد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بنصر المؤمنين لله - تعالى - نصرهم لدينه، بأن يستقيموا على أمره ويتبعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان، إن تنصروا دين الله - عز وجل - وتتبعوا رسوله، { يَنصُرْكُمْ } - سبحانه - على أعدائكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } عند قتالكم إياهم ويوفقكم بعد ذلك للثبات على دينه، والشكر على نعمه.
وفى معنى هذه الآية، وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } }. وقوله - سبحانه -: { { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } }. وقوله - عز وجل -: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } }. وبعد هذا النداء الذى يحمل أكرم البشارات للمؤمنين، ذم - سبحانه - الكافرين ذما شديداً، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }.
والاسم الموصول مبتدأ وخبره محذوف، و { تَعْساً } منصوب على المصدر بفعل مضمر من لفظه، واللام فى قوله { لَّهُمْ } لتبيين المخاطب، كما فى قولهم: سقيا له، أى: أعنى له يقال: تعس فلان - من باب منع وسمع - بمعنى هلك.
قال القرطبى ما ملخصه وقوله: { تَعْساً لَّهُمْ } نصب على المصدر بسبيل الدعاء، مثل سقيا له.. وفيه عشرة أقوال: الأول: بعداً لهم. الثانى: حزنا لهم.. الخامس) هلاكا لهم.. يقال: تعسا لفلان، أى ألزمه الله هلاكا.
ومنه الحديث الشريف:
"تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة. إن أعطى رضى، وإن لم يعط لم يرض" .
وفى رواية: "تعس وانتكس، وإذا شيك - أى أصابته شوكة - فلا انتقش" أى: فلا شفى من مرضه.
والمعنى: والذين كفروا فتعسوا تعسا شديدا، وهلكوا هلاكا مبيراً، وأضل الله - تعالى - أعمالهم، بأن أحبطها ولم يقبلها منهم، لأنهم صدرت عن نفوس أشركت مع خالقها ورازقها آلهة أخرى فى العبادة.
فقوله: { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } معطوف على الفعل المقدر الذى نصب به لفظ "تعسا" ودخلت الفاء على هذا اللفظ، تشبيها للاسم الموصول بالشرط.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهم إلى الخسران والضلال فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
أى: ذلك الذى حل بهم من التعاسة والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من قرآن يهدى إلى الرشد، فكانت نتيجة هذه الكراهية، أن أحبط الله أعمالهم الحسنة التى عملوها فى الدنيا كإطعام وصلة الأرحام.. لأن هذه الأعمال لم تصدر عن قلب سليم، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ثم وبخهم - سبحانه - على عدم اعتبارهم بما فى هذا الكون من عبر وعظات فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
والهمزة للاستفهام التقريعى، والفاء معطوفة على مقدر، أى: أقبعوا فى مساكنهم فلم يسيروا فى جنبات الأرض، فيشاهدوا كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم كقوم عاد وثمود ولوط.. وغيرهم.
وقوله: { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } جملة مستأنفة، كأنه قيل: كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم؟ فكان الجواب: دمر الله - تعالى - عليهم مساكنهم وأموالهم، فالمفعول محذوف للتهويل والمبالغة فى الإِهلاك، يقال: دمر الله - تعالى - الأعداء تدميرا، إذا أهلكهم إهلاكا شديدا. ودمر عليهم، أى: أهلك ما يختص بهم، وجاء هنا بكلمة "عليهم" لتضمين التدمير معنى الإِيقاع أو الهجوم.
وقوله: { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } وعيد وتهديد لهؤلاء الكافرين المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - أى: هكذا كنت عاقبة المجرمين السابقين، وللكافرين المعاصرين لك - أيها الرسول الكريم - السائرين على درب سابقيهم فى الكفر والضلال والطغيان، أمثال تلك العاقبة السيئة.
فالضمير فى قوله - تعالى - { أَمْثَالُهَا } يعود إلى العاقبة المتقدمة. وجمع - سبحانه - لفظ الأمثال باعتبار تعدد العذاب الذى نزل بالأمم المكذبة السابقة.
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ }. أى: ذلك التدمير والإِهلاك الذى حل بالمكذبين، بسبب أن الله - تعالى - هو ولى المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم... أما الكافرون فلا مولى لهم ينصرهم أو يدفع عنهم ما حل بهم من دمار وخسران.
فالمراد بالمولى هنا: الناصر والمعين، وأن نصرته - تعالى - هى للمؤمنين خاصة. ولا يناقض هذا قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ ... } لأن المراد بقوله: { مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ }: إلههم الحق، ومالكهم الحق، وخالقهم وخالق كل شئ.
ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين من ثواب عظيم، وما أعده للكافرين من عذاب أليم، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ.. } أى يتمتعون وينتفعون بملاذ الدنيا أياما قليلة.
{ وَيَأْكُلُونَ } مآكلهم بدون تفكر أو تحر للحلال أو شكر لله { كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ } طعامها الذى يلقيه إليها صاحبها.
فالمقصود بالجملة الكريمة ذم هؤلاء الكافرين، لشبههم بالأنعام التى لا تعقل، فى كونهم يأكلون طعامهم دون أن يشكروا الله - تعالى - عليه، ودون أن يفرقوا بين الحلال والحرام، ودون أن يرتفعوا بإنسانيتهم عن مرتبة الحيوان الأعجم.
قال الآلوسى: والمعنى أن أكلهم مجرد عن الفكر والنظر، كما تقول للجاهل: تعيش كما تعيش البهيمة، فأنت لا تريد التشبيه فى مطلق العيش، ولكن فى خواصه ولوازمه. وحاصلة أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم.
وقوله: { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } بيان لسوء عاقبتهم فى الآخرة، بعد بيان صورتهم القبيحة فى الدنيا. والمثوى: اسم مكان لمحل إقامة الإِنسان.
بأى: والنار هى المكان المعد لنزولهم فيه يوم القيامة.
ثم سلى - سبحانه - نبيه عما أصابه منهم من أذى فقال: { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }.
وكلمة { كَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على التكثير، ويكنى بها عن عدد مبهم فتحتاج إلى تميز بعدها. وهى مبتدأ.. وقوله: { أَهْلَكْنَاهُمْ } خبرها. و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز لها. والمراد بالقرية أهلها، وهم مشركو قريش.
أى: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التى أخرجوك منها - أيها الرسول الكريم - فترتب على فعلهم هذا أن أهلكناهم دون أن ينصرهم من عقابنا ناصر، أو أن يجيرهم من عذابنا مجير.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة، فى تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المرسلين، وخاتم النبيين.
روى ابن أبى حاتم، بسنده - عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار، التفت إليها وقال: يا مكة: أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إلىَّ، ولو أن المشركين لم يخرجونى لم أخرج منك.. فأنزل الله هذه الآية.
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها فى الموازنة والمقارنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين. فقال - تعالى -: { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ... فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }.