التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ
٢٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
٢٦
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
٢٧
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٢٨
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
٢٩
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
٣٠
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ
٣١
-محمد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بارتدادهم على أدبارهم: رجوعهم إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال.
أى: إن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال، وهم المنافقون، الذين يتظاهرون بالإِسلام ويخفون الكفر.
وقوله: { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدى } ذم لهم على هذا الارتداد، لأنهم لم يعودوا إلى الكفر عن جهالة، وإنما عادوا إليه من بعد أن شاهدوا الدلائل الظاهرة، والبراهين الساطعة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن الإِسلام هو الدين الحق.
وقوله: { ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر، وهى خبر إن فى قوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ }.
وقوله: { سَوَّلَ } من التسويل بمعنى التزيين والتسهيل. يقال: سولت لفلان نفسه هذا الفعل، أى: زينته وحسنته له، وصورته له فى صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح.
وقوله: { وَأَمْلَىٰ } من الإِملاء وهو الإِبقاء ملاوة من الدهر، أى: زمنا منه أى: الشيطان زين لهؤلاء المنافقين سوء أعمالهم، ومد لهم فى الأمانى الباطلة، والآمال الفاسدة، وأسباب الغواية والضلال.
وأسند - سبحانه - هذا التسويل والإِملاء إلى الشيطان، مع أن الخالق لذلك هو الله - تعالى - لأن الشيطان هو السبب فى هذا الضلال والخسران.
ثم بين - سبحانه - أسباب هذا الارتداء فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ }.
أى: ذلك الارتداء عن الحق والتردى فى الباطل. بسبب أن هؤلاء المنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله من الهدى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهم اليهود ومن على شاكلتهم، قالوا لهم: { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } أى: سنطيعكم فى بعض أموركم وأحوالكم التى على رأسها: العداوة لهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به من عند ربه.
كما قال - تعالى - حكاية عنهم فى آية أخرى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } }. وقوله - سبحانه -: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } تهديد لهم على هذا الدس والكيد والتآمر على الإِِسلام وأتباعه. أى: والله - تعالى - يعلم ما يسرونه من أقوال سيئة، ومن أفعال قبيحة، وسيعاقبهم على ذلك عقابا شديدا.
وكلمة { إِسْرَارَهُمْ } - بكسر الهمزة - مصدر أسررت إسرارا، بمعنى كتمت الشئ وأخفيته وقرأ بعض القراء السبعة { أسرارهم } - بفتح الهمزة - جمع سر. يعلم الأشياء التى يسرونها ويخفونها.
ثم بين - سبحانه - حالهم عندما تقبض الملائكة أرواحهم فقال: { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }.
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام للاستعظام والتهويل، و "كيف" منصوب بفعل محذوف هو العامل فى الظرف "إذا".
والمراد بوجوههم: كل ما أقبل منهم، وبأدبارهم: كل ما أدبر من أجسامهم.
أى: هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم، وقالوا ما قالوا من كفر وضلال، كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وقبضت أرواحهم؟ لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال وأقبحه، لأن ملائكة الموت يضربون عند قبض أرواحهم وجوه هؤلاء المنافقين وأدبارهم، ضربا أليما موجعا.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } }. واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } يعود إلى توفى الملائكة لهم، وقبضهم لأرواح هؤلاء المنافقين. أى: ذلك الضرب الأليم لهم من الملائكة عند قبضهم لأرواحهم بسبب أن هؤلاء المنافقين قد اتبعوا ما يغضب الله - تعالى - من الكفر والمعاصى، وبسبب أنهم كرهوا ما يرضيه من الإِيمان والطاعة.
{ فَأَحْبَطَ } - سبحانه -: { أَعْمَالَهُمْ } بأن أبطلها ولم يقبلها منهم، لأنها لم تصدر عن قلب سليم.
ثم هددهم - سبحانه - بكشف أستارهم، وفضح أسرارهم فقال: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ }.
و"أم" منقطعة بمعنى بل والهمزة، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، و "أن" مخففة من الثقنلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة بعدها خبرها، وأن وصلتها سادة مسد مفعولى حسب.
والأضغان: جمع ضغن، وهو الحقد الشديد. يقال: ضَغِن صدر فلان ضَغَنا - بزنة تعب -، إذا اشتد حقده وغيظه، والاسم الضِّغْن، بمعنى الالتواء والاعوجاج الذى يكون فى كل شئ، ويقال: تضاغن القوم، إذا انطوت قلوبهم على البغض والحقد.
أى: بل أحسب هؤلاء المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بمرض الكفر والضلال، أن الله - تعالى - غير قادر على إظهار أحقادهم الشديدة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين؟
إن حسبانهم هذا هو لون من جهالاتهم ومن غباوتهم وانطماس بصائرهم.
لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ، ولا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته فقال: { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ }.
والمراد بالإِرادة هنا: التعريف والعلم الذى يقوم مقام الرؤية بالبصر، كما فى قولهم: سأريك يا فلان ما أصنع بك. أى: سأعلمك بذلك.
والفاء فى قوله: { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } لترتيب المعرفة على الإِرادة، والمراد بسيماهم: علاماتهم. يقال: سوم فلان فرسه تسويما، إذا جعل له علامة يتميز بها.
وكررت اللام فى قوله: { فَلَعَرَفْتَهُم } للتأكيد.
ولحن القول: أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإِبهام، يقال: لَحْنتُ لفلان ألْحَن لَحْنا، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره.
قال الجمل: واللحن يقال على معنيين، أحدهما: الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك - ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه فى غزوة الأحزاب:
"وإن وجدتموهم - أى: بنى قريظة - على الغدر فالحنوا لى لحنا أعرفه" .
والثانى: صرف الكلام من الإِعراب إلى الخطأ - أى: من النطق السليم إلى النطق الخطأ -.
ويقال من الأول: لحَنتْ - بفتح الحاء - ألحن فأنا لاحن، ويقال من الثانى: لَحِن - بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما - فهو لحن.
والمعنى: ولو نشاء إعلامك وتعريفك - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا، لأن قدرتنا لا يعجزها شئ { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أى: بعلاماتهم الخاصة بهم، والتى يتميزون بها عن غيرهم.
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } - أيضا - { فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أى: ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عن الأساليب المعروفة فى الكلام، حيث يتخاطبون فيما بينهم بمخاطبات لا يقصدون ظاهرها، وإنما يقصدون أشياء أخرى فيها الإِساءة إليك وإلى أتباعك.
قال الإِمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } يقول - تعالى -: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل سبحانه - ذلك فى جميع المنافقين، سترا منه على خلقه.
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أى: فيما يبدون من كلامهم الدال على مقاصدهم. كما قال عثمان - رضى الله عنه -: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفى الحديث:
"ما اسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها" .
وعن أبى مسعود عقبة بن عمرو قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم. ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان - حتى سمى ستة وثلاثين رجلا - ثم قال: إن فيكم - أو منكم - فاتقوا الله" .
وقوله - سبحانه -: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } ببان لعلمه الشامل - سبحانه - وتهديد لمن يجترح السيئات، أى: والله - تالى - يعلم أعمالكم علما تاما كاملا، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فى خلقه فقال: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }.
أى: ولنعاملنكم - أيها الناس - معاملة المختبر لكم بالتكاليف الشرعية المتنوعة، حتى نبين ونظهر لكم المجاهدين منكم من غيرهم، والصابرين منكم وغير الصابرين { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أى: ونظهر أخباركم حتى يتميز الحسن منها من القبيح.
فالمراد بقوله: { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ.. } إظهار هذا العلم للناس، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه، وصحيح العقيدة من سقيمها.
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد هددت المنافقين تهديدا شديدا، ووبختهم على مسالكهم الذميمة، وفضحتهم على رءوس الأشهاد، وحذرت المؤمنين من شرورهم.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالدعوة إلى صلاح الأعمال، وبتهديد الكافرين بالعذاب الشديد، وبتبشير المؤمنين بالثواب الجزيل، وبدعوتهم إلى الإِكثار من الإِنفاق فى سبيله.. فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ... لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم }.