التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
-محمد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والفاء فى قوله - تعالى -: { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار.
فالمراد باللقاء هنا: القتال لا مجرد اللقاء والرؤية. كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال.
وقوله - سبحانه -: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم. وقوله: { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف. أى: فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق، فإذا لقيتموهم للقتال، فلا تأخذكم بهم رأفة، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا.
والتعبير عن القتل بقوله: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ }، لتصويره فى أفظع صوره. ولتهويل أمر القتال، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله.
قال صاحب الكشاف: قوله: { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدم المصدر، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه.
وضرب الرقاب: عبارة عن القتل.. وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل.
على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة، ما ليس فى لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن.
وقوله - سبحانه -: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم، وإنزال الهزيمة بهم.
وقوله: { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح، مأخوذ من الشئ الثخين، أى: الغليظ، يقال: أثخن الجيش فى عدوه، إذا بالغ فى إنزال الجراحة الشديدة به، حتى أضعفه وأزال قوته.
والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم للشئ الذى يوثق به الأسير كالرباط أى: عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم، فاضربوا أعناقهم، فإذا ما تغلبتم عليهم وقهرتموهم، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم.
وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك.
والمن: الإِطلاق بغير عوض، يقال: مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل.
والفداء: ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر.
وقوله: { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف: أى: فإما تمنون عليهم بعد الأسر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم.
وقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات.
وأوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التى لا تقوم إلا بها، كالسلاح وما يشبه.
قال الشاعر:

وأعددتَ للحرب أوزارها رماحا طوالاً وخيلا ذكورا

أى: افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصاركم عليهم.
وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها، فكأنها تحملها وتستقل بها، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء، فقال: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ }.
واسم الإِشارة: خبر لمبتدأ محذوف، أى: الأمر ذلك، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف، أى: افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل، أى: لو يشاء إهلاكهم لأهلكم، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان، قوى الإِيمان من ضعيفه. كما قال - تعالى -:
{ { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } }. ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى: والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله.
{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى: فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها.
بل { سَيَهْدِيهِمْ } أى: بل سيوصلهم إلى طريق السعادة والفلاح.
{ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أى: ويصلح أحوالهم وشئونهم وقلوبهم.
{ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أى: ويدخلهم بعد كل ذلك الجنة يوم القيامة ويهديهم إلى بيوتهم ومساكنهم فيها، بحيث لا يخطئونها، حتى لكأنهم يقيمون فيها منذ خلقوا، وذلك كله بإلهام من الله - تعالى -: لهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: { عَرَّفَهَا لَهُمْ } هذا التعريف فى الآخرة. قال مجاهد: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله - تعالى - لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا... وذلك بإلهام منه - عز وجل -.
وورد فى بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا له على منزلته فيها، وقيل: إنه - تعالى -: رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف.
وقيل: معنى عرفها لهم. طيبها لهم من العرف وهو الرائحة الطيبة، ومنه طعام معرف، أى مطيب.
وعن الجبائى أن التعريف فى الدنيا، وهو يذكر أوصافها، والمراد أنه - سبحانه - لم يزل يمدحها لهم، حتى عشقوها، فاجتهدوا فى فعل ما يوصلهم إليها..
هذا ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- وجوب قتال الكافرين بكل شدة وقوة، حتى تضعف شوكتهم، وتدول دولتهم، ويخضعوا لحكم شريعة الإِسلام فيهم.
وفى هذه المعنى وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } }. 2- أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى -: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أن الأسير من الأعداء يدور أمره بين هاتين الحالتين إما أن نطلق سراحه بدون مقابل، وإما أن نطلق سراحه فى مقابل فدية معينة نأخذها منه، وقد تكون هذه الفدية مالا، أو عملا، أو غير ذلك مما فيه منفعة للمسلمين.
ويرى بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى -:
{ { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } }. ويرى المحققون من العلماء أن هذه الآية، وهى قوله - تعالى -: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً }. تحكى حالات معينة يكون امر الأسرى فيها دائرا بين المن والفداء، لأنهما من مصلحة المسلمين، وهناك حالات أخرى يكون الأصلح فيها قتل الأعداء، أو استرقاقهم.
فمسألة الأسرى من الأعداء، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين، ومرجع الحكم فيها إلى البصراء بالحرب وبوضع خططها، لأنهم أعرف الناس بكيفية معاملة الأسرى.
وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس، لأنه الثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أفعال أصحابه، ولأن ذكر المن والفداء لا ينافى جواز غيره كالقتل - مثلا - لأن هذا الغير مفهوم من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة.
وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء، منهم الإِمام ابن جرير، فقد قال ما ملخصه - بعد أن ساق جملة من الأقوال -: والصواب من القول عندنا فى ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المن والقتل والفداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى القائمين بعده بأمر الأمة. وإن لم يكن القتل مذكورا فى هذه الآية، لأنه قد أذن - سبحانه - بقتلهم فى آيات أخرى منها
{ { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } }. وقد فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط.
وأخذ الفداء من غيره.. ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفى وهو أسير فى يده.
وقال القرطبى - بعد أن ذكر أربعة أقوال -: الخامس: أن الآية محكمة، والإِمام مخير فى كل حال.
وبهذا قال كثير من العلماء منهم: ابن عمر، والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعى والثورى والأوزاعى.. وغيرهم، وهو الاختيار؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك. فقد قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بدر النضر بن الحارث. وأخذ الفداء من أسارى بدر.. وقد مَنَّ على سبى هوزان، وهذا كله ثابت فى الصحيح.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: وما نحسبنا مخطئين إذ قلنا إن الذى كان من النبى - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال المختلفة، كان نزولا على مقتضى المصلحة، ولذلك نراه كان يجتهد فى تعرف وجوه المصلحة، فيستشير أصحابه.
ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة، واحدا لا يتخطى. ما كان هناك معنى للاستشارة، ولا للنزول على رأى بعض أصحابه، ولما خالف فى الحرب الواحدة بين أسير وأسير، فقتل هذا، وأخذ الفداء من هذا. ومنَّ على هذا.
وإذا فالمصلحة العامة وحدها المحكْمة، وهى الخطة التى تتبع فى الحروب، خصوصا والحرب مكر وخديعة، ما دامت مكر أو خديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ولا يرسم لهم كيف يمكرون، وإلا ما كانوا ماكرين.
3- بشارة الشهداء بالثواب الجزيل، وبالأجر العظيم، ويكفى لذلك قوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }.
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث منها: ما أخرجه الإِمام أحمد عن قيس الجذامى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه يكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإِيمان" .
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين بشرهم بنصره متى نصروا دينه، وتوعد الكافرين بالخيبة والخسران، ووبخهم على عدم تدبرهم فى مصير الذين من قبلهم، وسلى النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه، فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ... فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }.