التفاسير

< >
عرض

هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٢٦
-الفتح

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالذين كفروا فى قوله - تعالى -: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ } مشركو قريش، الذين منعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة، ومن الطواف بالبيت الحرام.
والهدى: مصدر بمعنى المفعول، أى: المهدى، والمقصود به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقر والغنم، ليذبح تقربا إلى الله - تعالى - وكان مع المسلمين فى رحلتهم هذه التى تم فيها صلح الحديبية سبعين بدنة - على المشهور - ولفظ الهدى قرأه الجمهور بالنصب عطفا على الضمير المنصوب فى قوله: { صدوكم } وقرأ أبو عمرو بالجر عطفا على المسجد..
وقوله: { مَعْكُوفاً } أى: محبوسا. يقال: عكفه يعكفه عكفا، إذا حبسه ومنه الاعتكاف فى المسجد، بمعنى الاحتباس فيه، وهو حال من الهدى.
وقوله: { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } منصوب بنزع الخافض، أى: عن أن يبلغ محله، أى: مكانه الذى يذبح فيه وهو منى.
والتعبير بقوله: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } تصريح بذمهم وتوبيخهم على موقفهم المشين من المؤمنين، الذين لم يأتوا إلى مكة لحرب، وإنما أتوا لأداء شعيرة من شعائر الله.
أى: هم فى ميزان الله واعتباره الكافرون حقا. لأنهم صدوكم ومنعوكم - أيها المؤمنون - عن دخول المسجد الحرام، وعن الطواف به، ولم يكتفوا بذلك، بل منعوا الهدى المحبوس من أجل ذبحه على سبيل التقرب به إلى الله - تعالى - من الوصول إلى محله الذى يذبح فيه فى العادة وهو منى.
قال القرطبى ما ملخصه: "قوله: { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أى: محبوسا.... { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }. أى: منحره.. والمحل - بالكسر - غاية الشئ، وبالفتح: هو الموضع الذى يحله الناس، وكان الهدى سبعين بدنة، ولكن الله - تعالى - بفضله جعل ذلك الموضع - وهو الحديبية - له محلا.
وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة...
وفى البخارى عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنة وحلق رأسه..".
وقوله - تعالى -: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. } بيان لحكمة الله - تعالى - فى منع الحرب بين الفريقين.
وجواب "لولا" محذوف لدلالة الكلام عليه. والمراد بالرجال المؤمنين وبالنساء المؤمنات: سبع رجال وامرأتان كانوا بمكة.
قال الآلوسى: "وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبى جمعة جنبذ بن سبع - تسعة نفر: سبعة رجال - وهو منهم - وامرأتين.
وجملة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث.
وقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال من رجال ونساء، والوطء الدَّوْس، والمراد به هنا الإِهلاك. وقوله: { مَّعَرَّةٌ } أى: مكروه وأذى يقال عَرَّه يعُره عَرًّا، إذا أصابه بمكروه، وأصله من العُرِّ وهو الجرب.
والمراد به هنا: تعيير الكفار للمؤمنين بقولهم: لقد قتلتم من هم على دينكم.
والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا - أيها المؤمنين - أناسا مؤمنين موجودين فى مكة بين كفارها، وأنتم لا تعرفونهم، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه، لولا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة، بل لسلطكم عليهم لكى تقتلوهم.
واللام فى قوله - سبحانه -: { لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } متعلقة بما يدل عليه جواب لولا المقدر.
أى: لولا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة، ولكنه - سبحانه - كف أيديكم عنهم، ليدخل فى رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده، وعلى رأس هؤلاء العباد، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا فى مكة، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهرانى الكفار، ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب...
كذلك قد شملت رحمته - تعالى - بعض كفار مكة، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا فى الإِسلام، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية.
وقوله - سبحانه -: { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } تأكيد لما دل عليه الكلام السابق، من أن حكمته - تعالى - قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكافرين، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين.
وقوله { تَزَيَّلُواْ } أى: تميزَّوا. يقال: زِلْتُه زَيْلاً، أى: مِزْتُه، وزيله فتزيل أى: فرقه فتفرق أى: لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون فى مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها، وانعزلوا عنهم، لعدبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما، تارة عن طريق إهلاكهم، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى، و"من" فى قوله { مِنْهُمْ } للبيان لا للتبعيض.
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم فقال: { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ }.
والظرف { إِذْ } منصوب بفعل مقدر. والحمية: الأنفة والتكبر والغرور والتعالى بغير حق. يقال: حَمِىَ أنفه من الشئ - كرضى - إذا غضب منه، وأعرض عنه.
أى: واذكر - أيها العاقل - وقت أن تمسك الكافرون وقيدوا أنفسهم بالحمية الباطلة، التى هى حمية المِلّة الجاهلية، حيث منعوا المسلمين من دخول مكة، ومن الطواف بالمسجد الحرام، وحيث منعوا الهدى من أن يبلغ محله، وحيث أبوا أن يكتب فى الصحيفة التى عقدت بينهم وبين المسلمين، بسم الله الرحمن الرحيم، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فهذا كله من حميتهم الجاهلية التى لا أساس لها من علم أو خلق أو دين...
وقوله: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ... } معطوف على ما قبله، للمقابلة بين حال الفريقين، مقابلة تتجلى فيها رعايته - سبحانه - للمؤمنين، وغضبه على الكافرين. أى: هذا هو حال الكافرين، رسخت الجهالات فى قلوبهم حتى صرفتهم عن سبيل الرشد، أما حال المؤمنين فأنهم قابلوا تصرفات هؤلاء الكافرين بالاحتقار والازدراء ومبايعة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - على الموت إذا لزم الأمر ذلك.
فأنزل الله - تعالى - طمأنينته وسكينته على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب أصحابه، حيث لم يجعلهم يقابلون سفاهات المشركين بسفاهات مثلها...
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } أى: وجعلهم ملتزمين بما تقتضيه كلمة التقوى، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، من أناة وسكون وثبات ووقار وخلق كريم وإخلاص فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله.
{ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أى: وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار، وكانوا أهلا لها دون الكفار، لأن المؤمنين استجابوا للحق. أما الكافرون فقد أنفوا منه، وتطاولوا عليه، بمقتضى حميتهم الجاهلية... { وَكَانَ } - سبحانه - وما زال { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } لا يخفى عليه أمر، ولا يغيب عن علمه شئ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى ألوانا من المقابلات التى تدل على مدح الله - تعالى - للمؤمنين، وعلى احتقاره للكافرين.
فقد عبر - سبحانه - فى جانب الكافرين بكلمة جعل التى تشعر بأن الكافرين كأنهم قد ألقوا هذه الحمية الجاهلية فى قلوبهم إلقاء بدون تعقل أو تدبر، بينما عبر فى جانب المؤمنين بكلمة أنزل التى تشعر كأن السكينة كانت فى خزائنه - تعالى - ثم أنزلها بعد ذلك على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب المؤمنين، ليزدادوا إيمانا على إيمانهم..
ونرى الفاعل لجعل هو الذين كفروا، بينما الفاعل لأنزل هو الله - عز وجل -.
ونرى المفعول لجعل هو الحمية، وهى كلمة مشتعلة منفرة، وقد كررها - سبحانه - ليزداد العقلاء نفورا منها.. ونرى المفعول لأنزل هو السكينة وهى كلمة فيها ما فيها من الوقار والسكون والثبات والطمأنينة.
ونرى الحمية قد أضيفت إلى الجاهلية، بينما السكينة أضيفت إلى الله - تعالى -.
ونرى أن الله - تعالى - قد أضاف كل ذلك مدحا عظيما لعباده المؤمنين حيث ألزمهم كلمة التقوى، وجعلهم أحق بها وأهلا لها دون أعدائهم الذين آثروا الغى على الرشد، والباطل على الحق... وفى ذلك ما فيه من الثناء على المؤمنين والتحقير للكافرين.
ثم أكد الله - تالى - صدق ما شاهده النبى - صلى الله عليه وسلم - فى رؤياه، وبين الحكمة التى من أجلها أرسله إلى الناس كافة فقال - تعالى -: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ... بِٱللَّهِ شَهِيداً }.