التفاسير

< >
عرض

وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٠
-الحجرات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها: ما رواه الإِمام أحمد عن أنس قال: قيل للنبى - صلى الله عليه وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبى؟ فانطلق إليه النبى - صلى الله عليه وسلم وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهى أرض سبخة، فلما انطلق إليه - عليه الصلاة والسلام - قال إليكم عنى، فوالله لقد آذانى ريح حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك.
قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، وغضب للأنصارى أصحابه. قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدى.. فبلغنا أنه أنزلت فيهم { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ... }.
والخطاب فى الآية لأول الأمر من المسلمين، والأمر فى قوله { فَأَصْلِحُواْ } للوجوب، والطائفة: الجماعة من الناس.
أى: وإن حدث قتال بين طائفتين من المؤمنين، فعليكم يا أولى الأمر من المؤمنين أن تتدخلوا بينهما بالإِصلاح، عن طريق بذل النصح، وإزالة أسباب الخلاف.
والتعبير "بإن" للإِشعار بأنه لا يصح أن يقع قتال بين المؤمنين، فإن وقع على سبيل الندرة، فعلى المسلمين أن يعملوا بكل وسيلة على إزالته.
وجاء "إقتتلوا" بلفظ الجمع، لأن لفظ الطائفة وإن كان مفردا فى اللفظ إلا أنه جمع فى المعنى، فروعى فيه المعنى هنا. وروعى فيه اللفظ فى قوله { بَيْنَهُمَا }.
قالوا: والنكنة فى ذلك أنهم فى حال القتال يكونون مختلطين فلذا جاء الأسلوب بصيغة الجمع، وفى حال الصلح يكونون متميزين متفرقين فلذا جاء الأسلوب بصيغة التثنية.
ثم بين - سبحانه - حكمه فى حال اعتداء إحداهما على الأخرى فقال: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ }.
والبغى: التعدى وتجاوز الحد والامتناع عن قبول الصلح المؤدى إلى الصواب.
أى: فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، وتجاوزت حدود العدل والحق، فقاتلوا - أيها المؤمنون - الفئة الباغية، حتى تفئ وترجع إلى حكم الله - تعالى - وأمره، وحتى تقبل الصلح الذى أمرناكم بأن تقيموه بينهم.
وقوله: { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الفئة الباغية، إذا ما قبلت الصلح ورجعت إلى حكم الله - تعالى -.
أى: فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها، وقبلت الصلح، وأقلعت عن القتال، فأصلحوا بين الطائفتين إصلاحا متسما بالعدل التام وبالقسط الكامل.
وقيد - سبحانه - الإِصلاح بالعدل. ثم أكد ذلك بالأمر بالقسط حتى يلتزم الذين يقومون بالصلح بينهما العدالة التى لا يشوبها أى حيف أو جور على إحدى الطائفتين.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } تذييل المقصود به حض المؤمنين على التقيد بالعدل فى أحكامهم، لأن الله - تعالى - يحب من يفعل ذلك.
وقوله: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. } استئناف مقرر لمضمون ما قبله من الأمر بوجوب الإِصلاح بين المتخاصمين.
أى: إنما المؤمنون إخوة فى الدين والعقيدة، فهم يجمعهم أصل واحد وهو الإِيمان، كما يجمع الإِخوة أصل واحد وهو النسب، وكما ان أخوة النسب داعية إلى التواصل والتراحم والتناصر فى جلب الخير، ودفع الشر، فكذلك الأخوة فى الدين تدعوكم إلى التعاطف والتصالح، وإلى تقوى الله وخشيته، ومتى تصالحتم واتقيتم الله - تعالى - كنتم أهلا لرحمته ومثوبته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فلم خص الإِثنان بالذكر دون الجمع فى قوله: فأصلحوا بين أخويكم -؟
قلت: لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد فى شقاق الجمع أكثر منه فى شقاق الاثنين.
هذا، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين جملة من الأحكام منها:
أن الأصل فى العلاقة بين المؤمنين أن تقوم على التواصل والتراحم، لا على التنازع والتخاصم، وأنه إذا حدث نزاع بين طائفتين من المؤمنين، فعلى بقية المؤمنين أن يقوموا بواجب الإِصلاح بينهما حتى يرجعا إلى حكم الله - تعالى -.
قال الشوكانى: إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله فإن حصل بعد ذلك التعدى من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين فى الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة، حتى تخرج من الظلم، وتؤدى ما يجب عليها نحو الأخرى.
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء رابعا، نهاهم فيه عن أن يسخر بعضهم من بعض، أو أن يعيب بعضهم بعضا فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ... فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.