التفاسير

< >
عرض

قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
١٥
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٦
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٧
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
-الحجرات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والإِعراب: اسم جنس لبدو العرب، واحده أعرابى، وهم الذين يسكنون البادية.
والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم، لأن منهم،
{ { مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } }.. قال الآلوسى: قال مجاهد: نزلت هذه الآيات فى بنى أسد، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة، أظهروا الإِسلام، وقلوبهم دغلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا.. ويروى أنهم قدموا المدينة فى سنة مجدبة، فأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان.. يمنون بذلك على النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله - سبحانه -: { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا } من الإِيمان، وهو التصديق القلبى، والإِذعان النفسى والعمل بما يقتضيه هذا الإِيمان من طاعة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: { أَسْلَمْنَا } من الإِسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهرى بالجوارح، دون أن يخالط الإِيمان شغاف قلوبهم. أى: قالت الأعراب لك - أيها الرسول الكريم - آمنا وصدقنا بقلوبنا لكل ما جئت به، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه.
قل لهم { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أى: لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية..
{ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أى: ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإِسلام: واستسلمنا لما تدعونا إليه إستسلاما ظاهريا طمعا فى الغنائم، أو خوفا من القتل.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وجه قوله - تعالى -: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } والذى يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا...
قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا، ودفع ما انتحلوه، فقيل: قل لم تؤمنوا، وروعى فى هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه، حيث لم يقل: كذبتم، ووضع، "لم تؤمنوا" الذى هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه..
واستغنى بالجملة التى هى "لم تؤمنوا" عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإِيمان..
وقوله: { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } جملة حالية من ضمير، "قولوا" و "لما" لفظ يفيد توقع حصول الشئ الذى لم يتم حصوله.
أى: قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإِيمان فى قلوبكم بعد، فإنه لو استقر فى قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك، ولما مننتم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإسلامكم.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإِيمان أخص من الإِسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، حين سأل عن الإِسلام. ثم عن الإِيمان.. فترقى من الأعم إلى الأخص.
كما يدل على ذلك حديث الصحيحين
"عن سعد بن أبى وقاص، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلا ولم يعط آخر. فقال سعد: يا رسول الله، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا، فقال: أو مسلما" .
فقد فرق - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمن والمسلم. فدل على أن الإِيمان أخص من الإِسلام.
كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين فى هذه الآية، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان فى قلوبهم. فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا بذلك..
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما يكمل إيمانهم فقال: { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ومعنى: "لا يلتكم" لا ينقصكم. يقال: لات فلان فلانا حقه - كباع - إذا نقصه.
أى: وإن تطيعوا الله - تعالى - ورسوله، بأن تخلصوا العبادة، وتتركوا المن والطمع، لا ينقصكم - سبحانه - من أجور أعمالكم شيئا، إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا.
ثم بين - سبحانه - صفات عباده المؤمنين الصادقين فقال: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }.
أى: إنما المؤمنون حق الإِيمان وأكمله، هم الذين آمنوا بالله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أى: لم يدخل قلوبهم شئ من الريبة أو الشك فيما أخبرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
وأتى - سبحانه - بثم التى للتراخى، للتنبيه على أن نفى الريب عنهم ليس مقصورا على وقت إيمانهم فقط، بل هو مستمر بعد ذلك إلى نهاية آجالهم، فكأنه - سبحانه - يقول: إنهم آمنوا عن يقين، واستمر معهم هذا اليقين إلى النهاية.
ثم أتبع ذلك ببيان الثمار الطيبة التى ترتبت على هذا الإِيمان الصادق فقال: { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
أى: وبذلوا من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى -، ومن أجل دينه أموالهم وأنفسهم.
قال الآلوسى: وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقى من الأدنى إلى الأعلى. ويجوز بأن يقال: قدم الأموال لحرص الكثيرين عليها، حتى إنهم يهلكون أنفسهم بسببها...
{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أى: أولئك الذين فعلوا ذلك هم الصادقون فى إيمانهم.
ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم بأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أحوالهم فقال: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ }.
وقوله: { أَتُعَلِّمُونَ } من الإِعلام بمعنى الإِخبار، فلذا تعدى بالتضعيف لِواحِد بنفسه، وإلى الثانى بحرف الجر. أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الأعراب على سبيل التوبيخ: أتخبرون الله - تعالى - بما أنتم عليه من دين وتصديق حيث قلتم آمنا، على سبيل التفاخر والتباهى.. وأحال أن الله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } دون أن يخفى عليه شئ من أحوال المخلوقات الكائنة فيهما.
وقوله - سبحانه -: { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقرر لما قبله ومؤكد له.
ثم أشار - تعالى - إلى نوع آخر من جفائهم وقلة إدراكهم فقال: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ... }.
والمن: تعداد النعم على الغير، وهو مذموم من الخلق، محمود من الله - تعالى -.
أى: هؤلاء الأعراب يعدون إيمانهم بك منة عليك، ونعمة أسدوها إليك حيث قالوا لك: جئناك بالأموال والعيال، وقاتلك الناس ولم نقاتلك..
وقوله: { أَنْ أَسْلَمُواْ } فى موضع المفعول لقوله: { يَمُنُّونَ } لتضمينه معنى الاعتداد، أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر. أى: يمنون عليك بإِسلامهم.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يدل على غفلتهم فقال: { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ... }.
أى: قل لهم لا تتفاخروا علىّ بسبب إسلامكم، لأن ثمرة هذا الإِسلام يعود نفعها عليكم لا علىّ.
ثم بين - سبحانه - أن المنة له وحده فقال: { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ... }.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - ليس الأمر كما زعمتم من أن إِسلامكم يعتبر منّهًّ علىَّ، بل الحق أن الله - تعالى - هو الذى يمن عليكم أن أرشدكم إلى الإِيمان، وهداكم إليه، وبين لكم طريقه، فادعيتم أنكم آمنتم مع أنكم لم تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط.
قال صاحب الكشاف: وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما، ونفى أن يكون - كما زعموا - إيمانا فلما منُّوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهم، قال الله - تعالى - لرسوله: إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به..
ثم قال: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه، حيث هداكم للإِيمان - على ما زعمتم - وادعيتم أنكم أرشدتم إليه، ووفقتم له إن صح زعمكم، وصدقت دعواكم.. وفى إضافة الإِسلام عليهم، وإيراد الإِيمان غير مضاف، ما لا يخفى على المتأمل...
وجواب الشرط فى قوله: { إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف، يدل عليه ما قبله. أى: إن كنتم صادقين فى إيمانكم فاعتقدوا، أن المنة إنما هى لله - تعالى - عليكم، حيث أرشدكم إلى الطريق الموصل إلى الإِيمان الحق.
وشبيه فى المعنى بهذه الآية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار فى إحدى خطبه:
"يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى، وكنتم متفرقين فألفكم الله بى، وكنتم عالة فأغناكم الله بى؟" وكان - صلى الله عليه وسلم - كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ.
والحق أن هداية الله - تعالى - لعبده إلى الإِيمان تعتبر منة منه - سبحانه - لا تدانيها منه، ونعمة لا تقاربها نعمة، وعطاء ساميا جليلا منه - تعالى - لا يساميه عطاء فله - عز وجل - الشكر الذى لا تحصيه عبارة على النعمة، ونسأله - تعالى - أن يديمها علينا حتى نلقاه.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... } أى: إنه - تعالى - يعلم ما خفى وغاب عن عقول الناس من أحوال السماوات والأرض { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } - أيها الناس - لا يعزب عنه شئ من أقوالكم أو أفعالكم.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة "الحجرات" تلك السورة التى رسمت للناس معالم عالم كريم، تشع فيه الآداب السامية، والأخلاق العالية، والقيم الجليلة، وتختفى فيه ما يتعارض مع هذه المعانى كالحقد والغيبة والتقاتل والتفاخر بالأحساب والأنساب.
نسأل الله - أن يجعل القرآن ربيع نفوسنا، وأنس قلوبنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.