التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٨
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { قَوَّامِينَ } جمع قوام. وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ فى القيام بالشىء. وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه.
وقوله: { شُهَدَآءَ } جمع شهيد - بوزن فعيل - والأصل فى هذه الصيغة، دلالتها على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم.
والقسط: العدل يقال أقسط فلان يقسط إذا عدل فى أقواله وأحكامه.
وقوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أى: ولا يحملنكم من جرمه على كذا إذا حمله عليه أو معناه: ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب غير أنه فى كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة.
وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة وأطلق على الكسب؛ لأن الكاسب ينقطع لكسبه.
والشنآن: البغض الشديد. يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأه وشنآنا، إذا أبغضته بغضاً شديداً.
والمعنى: يأيها الذين آمنوا بالحق إيماناً صادقاً { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } أى. ليكن من أخلاقكم وصفاتكم أن تقوموا لله وحده بالحق فى كل ما يلزمكم القيام به. ومن العمل بطاعته، واجتناب منهياته، وليكن من دأبكم وشأنكم - أيضاً - أن تلتزموا العدل فى شهادتكم، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم على عدم العدل معهم، فإن عدم العدل فى الأقوال والأحكام يتنافى مع تعاليم دين الإِسلام. الذى آمنتم به، ورضيه الله لكم دينا.
وفى ندائه - سبحانه - بقوله: { كُونُواْ قَوَّامِينَ } بصفة الكينونة الدالة على الدوام، وبصيغة المبالغة الدالة على الكثرة. لتمكين صفة الطاعة له من نفوسهم، وترسيخها فى قلوبهم.
فكأنه - سبحانه - يقول لهم: روضوا أنفسكم على طاعة خالقكم، وعودوها على التزام الحق والعدل. واجعلوا ذلك شأنكم فى جميع الظروف والأحوال فلا يكفى أن تلتزموا الطاعة والعدل مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن يكون التزامكم لذلك فى كل أوقاتكم وأعمالكم.
وقوله: { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } تصريح بوجوب العدل بعد ما علم من النهى عن تركه فى قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } للتأكيد على وجوب التزامهم بما أمرهم - سبحانه - به وما نهاهم عنه، ولبيان العلة فى تكليفهم بذلك.
والضمير { هو } يعود إلى المصدر المفهوم من قوله: { ٱعْدِلُواْ }.
أى: التزموا - أيها المؤمنون - العدل فى كل أحوالكم، فإن العدل مع الأعداء ومع غيرهم أقرب إلى اتقاء المعاصى، وإلى صيانة النفس عن الوقوع فى المهالك.
وقال - سبحانه { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } مع أن العدل دليل التقوى ولبابها لأن المؤمن فى حال حربه وتعامله مع عدوه قد يرى أن من التقوى أن يستبيح ماله، وأن يأخذ منه ما يمكن أخذه، فبين له القرآن الكريم أن الأقرب إلى التقوى التامة أن يحسن معاملة عدوه، وأن لا يعتدى على حق من حقوقه.
قال صاحب الكشاف، قوله: { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أى: العدل أقرب للتقوى، وأدخل فى مناسبتها. وفيه تنبيه على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه".
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
أى: واتقوا الله أيها المؤمنون - فى كل ما تأتون وما تذرون، وصونوا أنفسكم عمّا لا يرضيه، وافعلوا ما أمركم به، إن الله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه على حسب أعمالكم.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أوامر الله، ومن انتهاك حرماته.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد أمرت المؤمنين بالمداومة على طاعة الله فى جميع الأوقات والأحوال، وبأداء الشهادات على وجهها بدون محاباة ولا ظلم، وبوجوب العدل فى معاملة الأعداء والأصدقاء، وبمراقبة الله - تعالى - وخشيته فى السر والعلانية.
قال الآلوسى: وقد تقدم نظير هذه الآية فى سورة النساء
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } ) - ولم يكتف بذلك لمزيد من الاهتمام بالعدل والمبالغة فى إطفاء ثائرة الغيظ. وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت فى المشركين، وهذه فى اليهود. وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جىء بها فى معرض الإِقرار على نفسه ووالديه وأقاربه. بدأ فيها بالقسط الذى هو العدل من غير محاباة نفس، ولا والد ولا قرابة. والتى هنا جىء بها فى معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله - تعالى - لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجىء فى كل معرض بما يناسبه".
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الكافرين فقال - تعالى - { وَعَدَ ٱللَّهُ } بفضله وإحسانه { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إيمانا حقا { وَعَمِلُواْ } الأعمال { ٱلصَّالِحَاتِ } التى نالوا بها رضا الله، وعدهم بأن { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمة ولهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يعرف مقداره إلا هو - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } التى جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أى: أولئك الموصفون بما ذكر من الكفر والتكذيب بآياتنا هم المستحقون لدخول النار المشتعلة الشديدة التأجج، بسبب إيثارهم الكفر على الإِيمان والتكذيب على التصديق.
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه الجزيلة، حتى يزدادوا شكراً له، ووفاء بعهده؛ والتزاما لطاعته فقال - تعالى -
{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } وقد أورد المفسرون فى سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه عبد الرازق عن معمر الزهرى عن أبى أسامة عن جابر: أن النبى صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس فى العضاة يستظلون تحتها. وعلق النبى صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابى إلى سيف رسول الله فأخذه فسله. ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله - عز وجل - فسقط السيف من يد الأعرابي. فدعا النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جانبه ولم يعاقبه.
قال ابن كثير: وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت فى شأن بنى النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم فى دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك. وأمروه إن جلس النبى صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقى الرحي من فوقه. فأطلع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما تمالأوا عليه. فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه. فأنزل الله فى ذلك هذه الآية.
وعلى هاتين الروايتين وما يشبههما يكون المراد بقوله - تعالى - { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } تذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم حيث نجى نبيهم صلى الله عليه وسلم مما أضمره له أعداؤه وأعدؤاهم.
وقال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية. روى أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا بعسفان فى غزوة ذات أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هى أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم - يعنون صلاة العصر - وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف.
وعلى هذه الرواية يكون المراد بقوله - تعالى - { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } تذكيرهم برعاية الله لهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم من كيد أعدائهم.
وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبى وأصحابه فقال: وأولى الأقوال بالصحة فى تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التى ذكر فى هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله التى أنعم بها عليهم فى استنقاذه نبيهم صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بنى النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم فى الدية التى كان تحملها عن قتيلى عمرو بن أمية وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة فى تأويل ذلك لأن الله عقب ذكر ذلك برمى اليهود بسوء صنائعها، وقبيح أفعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها.
والمعنى: يأيها الذين آمنوا تنبهوا إلى نعم الله عليكم وقابلوها بدوام الشكر والطاعة له - سبحانه - حيث أراد قوم من أعدائكم، أن يبسطوا إليكم أيديهم. أى: أن يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك ولكنه - سبحانه - رحمة بكم، ودفاعاً عنكم، حال بين أعدائكم وبين ما يريدونه بكم من سوء.
فالآية الكريمة تذكير للمؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عليهم حيث نجاهم من كيد أعدائهم، ومن محاولتهم إهلاكهم. إثر تذكيرهم قبل ذلك بنعم أخرى كإكمال الدين، وهدايتهم إلى الإِسلام، وغير ذلك من الآلاء والمنن.
وفى تكرار هذا التذكير ما فيه من الحض على تأكيد المداومة على طاعة الله والمواظبة على شكره.
وقوله { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } ظرف لقوله: { نِعْمَتَ ٱللَّهِ } والهم: إقبال النفس على فعل الشىء. أى: اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن قصدكم قوم من أعدائكم بالسوء والاهلاك.
وبسط اليد هنا كناية عن البطش والإِهلاك. يقال: بسط يده إليه، إذا بطش به. وبسط إليه لسانه: إذا شتمه. والبسط فى الأصل: مطلق المد. وإذا استعمل فى اليد واللسان كان كناية عما ذكر.
وقوله: { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } معطوف على قوله: { هَمَّ قَوْمٌ } وهذا الكف هو النعمة التى قصد تذكيرهم بها حتى يداوموا على شكره وطاعته.
وعبر - سبحانه - بقوله { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } للإِيذان بأن نعمة كف أيدى الأعداء عنهم قد جاءت عند شدة الحاجة إليها.
والفاء فى قوله { فَكَفَّ } للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها فهو - سبحانه - قد حال بين الأعداء وبين ما يشتهونه بمجرد أن قصدوا السوء بالمؤمنين.
وقال - سبحانه - { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } بإظهار الأيدي، ولم يقل فكفها عنكم؛ لزيادة التقرير. وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - هو الذى قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم إذ الأيدى هى من أهم وسائل البطش والقتل.
أى: أنه - سبحانه - قد منع أيديهم عن أن تمتد إليكم بالأذى عقيب همهم بذلك دفاعا عنكم - أيها المؤمنون - وحماية لكم من الشرور، فقابلوا ذلك بالشكر لخالقكم. وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } معطوف على قوله: { ٱذْكُرُواْ } وقوله: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أمر لهم بالاعتماد على الله وحده.
أى: داوموا على شكر نعم الله عليكم، وصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا فإنه - سبحانه - هو الفعال لما يريد، وهو الذى يدفع الشر عمن توكل عليه، ويعطى الخير لمن شكره وأطاعه.
فالجملة الكريمة تذييل مقرر لما قبله، من وجوب المداومة على طاعة الله وشكره على نعمه.
وإلى هنا نرى أن السورة الكريمة قد وجهت إلى المؤمنين خمس نداءات، أمرتهم فى أول نداء منها بالوفاء بالعقود. ونهتهم فى الثانى عن إحلال شعائر الله، وأرشدتهم فى النداء الثالث إلى ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا أرادوا الدخول فى الصلاة، وأمرتهم فى النداء الرابع بالمداومة على القيام بالتكاليف التى كلفهم - سبحانه - بها وبالتزام العدل فى أقوالهم وأحكامهم، ثم أمرتهم فى النداء الخامس بالتنبه إلى نعم الله ومداومة شكره عليها حيث نجاهم - سبحانه - مما أراده لهم أعداؤهم من شرور واستئصال.
وبعد هذه النداءات والتكليفات التى كلف الله - تعالى - بها المؤمنين، شرعت السورة الكريمة فى الحديث عن أحوال أهل الكتاب من اليهود، فذكرت ما أخذه الله عليهم من عهود موثقة، وموقفهم منها، وعقوبتهم على نقضهم لها. فقال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ... }