التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٢
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: قوله - تعالى - { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } اعلم أن فى اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه - تعالى - خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال:
{ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بنى إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا - أيها المؤمنون - مثلهم فى هذا الخلق الذميم.
الثانى: أنه لما ذكر قوله:
{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } وقد ذكرت بعض الروايات أنها نزلت فى اليهود، وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالمؤمنين. فلما ذكر - سبحانه - ذلك أتبعه بذكر فضائحهم، وبيان أنهم كانوا أبدا مواظبين على نقض العهود والمواثيق.
الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين فى قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان. فذكر - سبحانه - أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله فى التكليف والالزام غير مخصوصة بهم، بل هى عادة جارية له مع جميع عباده".
والميثاق: العهد الموثق المؤكد، مأخوذ من لفظ وثق المتضمن معنى الشد والربط على الشىء بقوة وإحكام.
والمراد به: ما أخذه الله على بنى إسرائيل لكى يؤدوا ما أوجب عليهم من تكاليف ولكى يعملوا بما تضمنته التوراة من أحكام وتشريعات وغير ذلك مما جاء فيها.
والنقيب: كبير القوم. والكفيل عليهم والمنقب عن أحوالهم وأسرارهم فيكون شاهدهم وضمينهم وعريفهم، وأصله من النقب وهو الثقب الواسع.
قال الآلوسى: والنقيب: قيل فعيل بمعنى فاعل مشتق من النقب بمعنى التفتيش ومنه
{ فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } وسمى بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأمرهم.
قال الزجاج: وأصله من النقيب وهو الثقب الواسع والطريق فى الجبل:
ويقول: فلان حسن النقيبة. أى: جميل الخليقة، ويقال: فلان نقاب؛ للعالم بالأشياء، الذكى القلب، الكثير البحث عن الأمور.
والمعنى: ولقد أخذ الله العهود المؤكدة على بنى إسرائيل. لكى يعملوا بما كلفهم من تكاليف، وأمر نبيه موسى - عليه السلام - أن يختار منهم اثنى عشر نقيبا. وأن يرسل هؤلاء النقباء إلى الأرض المقدسة لكى يطلعوا على أحوال ساكنيها، ثم يخبروا نبيهم موسى - عليه السلام - بعد ذلك بما شاهدوه من أحوالهم.
وسنفصل القول فى شأن بعث هؤلاء النقباء عند تفسيرنا لقوله - تعالى - بعد ذلك
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } وأكد - سبحانه - ما أخذه على بنى إسرائيل من عهود بقد وباللام، للاهتمام بشأن هذا الخبر، ولترغيب المؤمنين فى الوفاء بعهودهم مع الله - تعالى - حتى لا يصيبهم ما أصاب بنى إسرائيل من عقوبات بسبب نقضهم لمواثيقهم.
وأسند - سبحانه - الأخذ إليه، لأنه هو الذى أمر به موسى - عليه السلام - ولأن فى إسناد أخذ الميثاق إليه - سبحانه - زيادة فى توثيقه، وتعظيم توكيده وأى عهد يكون أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب؟
وفى قوله: { وَبَعَثْنَا } التفات إلى المتكلم العظيم - سبحانه - لتهويل شأن هذا الابتعاث، لأن الله - تعالى - هو الذى أمر به.
وإنما اختار موسى - عليه السلام - اثنى عشر نقيبا من بنى إسرائيل لأنهم كانوا اثنى عشر سبطا، كما قال - تعالى -
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } ولأن كل نقيب كان بمنزلة الرقيب على القبيلة التى هو منها يذكرها بالفضائل ويرغبها فى اتباع موسى - عليه السلام - وينهاها عن معصيته.
والمعية فى قوله - تعالى - { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } معية مجازية بمعنى الحفظ والرعاية والنصرة.
أى: أخذ الله على بنى إسرائيل العهود الموثقة، وأمر نبيه موسى أن يرسل منهم اثنى عشر نقيبا لمعرفة أحوال الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة وقال الله - تعالى - لهؤلاء النقباء، أو لبنى إسرائيل جميعا: إنى معكم لا تخفى علىَّ خافية من أحوالكم. وسأؤيدكم برعايتى ونصرى متى وفيتم بعهدى، واتبعتم رسلى. فالجملة الكريمة تحذير لهم من معصية الله؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ووعد لهم بالنصر متى أطاعوه.
ثم بين - سبحانه - بعض التكاليف التى كلفهم بها، وأخذ عليهم العهد بالمحافظة عليها فقال: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }.
واللام فى قوله { لئن } موطئة للقسم المحذوف، و "إن" شرطية، وقوله: { لأكفرن } جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
وقوله: { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } من التعزيز بمعنى النصر والإِعانة مع التعظيم والتفخيم يقال: عزر فلان فلانا إذا نصره وقواه، وأصل معناه: المنع والذب؛ لأن من نصر إنسانا منع عنه أعداءه.
والمعنى: لئن داومتم على إقامة الصلاة، وعلى أدائها على الوجه الأكمل بخضوع وخشوع، وأعطيتم الزكاة لمستحقيها { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } إيمانا كاملا، ونصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } بأن أنفقتم جانبا من أموالكم فى وجوه الخير والبر، لئن فعلتم ذلك { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } بأن أغفرها لكم، ولأدخلنكم فى الآخرة جنات تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد كلف بنى إسرائيل بخمسة أمور نافعة ووعدهم على أدائها بتكفير سيئاتهم فى الدنيا، وبإدخالهم جناته فى الآخرة.
قال الإِمام الرازى: وأخر - سبحانه - الإِيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها؛ لأن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد فى حصول النجاة من الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل. فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإِيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود. وإلا لم يكن لإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير فى حصول النجاة بدون الإِيمان بجميع الرسل".
والمراد بالزكاة فى قوله { وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ } الزكاة المفروضة.
والمراد بالقرض الحسن فى قوله { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } الصدقات غير المفروضة التى يبذلها القادرون عليها فى وجوه الخير المتنوعة بدون رياء أو أذى وفى التعبير بقوله: { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } تأنيس للقلوب وترغيب للنفوس فى البذل والعطاء، حيث شبه - سبحانه - ما يعطى للمحتاج رغبة فى الثواب بالقرض الذى سيكافئ الله - تعالى - صاحبه عليه بأضعافه من الخير والنعم.
وأضاف - سبحانه - الرسل إليه فى قوله { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } لتشريفهم وتكريمهم وتعظيم شأن رسالاتهم وللإِشارة إلى أن الإِيمان بهم جميعا واجب، فمن أطاعهم قد أطاع الله، ومن كفر بواحد منهم كفر بالله - تعالى -.
ثم بعد أن فتح الله - تعالى - لهم باب كرمه إن أدوا ما أمرهم به حذرهم من المخالفة والعصيان فقال: { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أى: فمن جحد منكم شيئاً مما أمرته به فتركه، أو أعرض عن التكاليف التى كلفته بها بعد أن عرفها فقد بعد عن السبيل المستوية، أخطأ الطريق الواضح المستقيم، وسار فى متاهات الضلال التى لا هداية فيها ولا خير معها.
فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن ترك الدين الحق واتجه إلى الأديان الباطلة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل، فلم قال: { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ }؟ قلت: أجل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل. ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم: لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعم المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية العظمى".
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت أن الله - تعالى - قد أخذ الميثاق على بنى إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التى كلفهم بها، وحذرهم من النقض والخيانة والكفر، ورغبهم فى الطاعة والإِيمان فماذا كان موقفهم من عهود الله - تعالى -؟
لقد بين - سبحانه - جانبا من رذائلهم، ومن العقوبات التى عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }.
والفاء فى قوله: { فَبِمَا نَقْضِهِم } للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم، والباء للسبيبة و "ما" مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه فى النفس والجار والمجرور - متعلق بقوله: { لَعنَّاهُمْ }.
وقوله: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } معطوف على ما قبله.
وقوله: { قَاسِيَةً } بوزن فاعلة - من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال: قسا قلبه يقسو فهو قاس، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا.
وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب.
أى فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأُر بالمواعظ والنذر.
وقرأ حمزة والكسائى: { وجعلنا قلوبهم قسية } بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة.
وللمفسرين فى معناها رأيان:
أحدهما: { قسية } بمعنى قاسية، غير أن فيها مبالغة، إذ هى على وزن فعيلة، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم,.
والثانى: أن معنى { قسية } هنا غير معنى قاسية، لأن قسية فى هذا الموضع مأخوذة من قولهم: درهم قسى - على وزن شقى - أى: فاسد ردىء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم.
والمعنى على هذا الوجه: وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التى يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما.
وقد رجح ابن جرير الرأى الأول - وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة - فقال (وأولى التأويلين عندى بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل: نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله - تعالى - وصف القوم بنقضهم ميثاقهم، وكفرهم به، ولم يصفهم بشىء من الإِيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التى يخالط فضتها غش).
وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثانى إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازماً فى المعنى فقال: وقرأ عبد الله { قسية } أى: ردية مغشوشة. من قولهم: درهم قسى وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة".
وقوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم، فإنه لا قسوة أشد من تحريف كلام الله - تعالى - والميل به عن الحق والصواب.
أى: أنهم بلغ بهم الحال فى قسوة قلوبهم، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه - سبحانه - عن الموضع الذى نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل، أو التفسير الفاسد، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تارة وبالنقصان أخرى، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة.
وعبر - سبحانه - بقوله: { يُحَرِّفُونَ } بصيغة الفعل المضارع، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين. والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم فى هذا الخلق الذميم.
فإن هذا التحريف الذى حكاه الله - تعالى - فى هذه الآية قد كان من بنى إسرائيل بعد عهد موسى - عليه السلام - واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبى صلى الله عليه وسلم لهم ومن تحذيره إياهم.
والمراد بالنسيان فى قوله: { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } الترك والإِهمال قال الراغب: (النسيان: ترك الإِنسان ضبط ما استودع. إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره).
والأنواع الثلاثة التى ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة.
والتنكير فى قوله { حَظَّا } للتكثير والتهويل. أى: تركوا نصيبا كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره.
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن فى هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم، فلما بين القرآن ذلك، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.
ولما كانت أخلاق الآباء كثيراً ما يتوارثها الأبناء، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبى صلى الله عليه وسلم من اليهود المعاصرين له، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال: { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ }.
وقوله { خَآئِنَةٍ } بمعنى الخيانة أى عدم الوفاء بالعهد. فهى مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية. قال - تعالى -
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } أى بالطغيان. ويحتمل أن يكون قوله { خائنة } صفة لموصوف محذوف أى على فرقة خائنة أو طائفة.
والمعنى: ولا تزال - أيها الرسول الكريم - ترى فى هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين فى الغدر والخيانة. وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم، وغدرهم ونقضهم لعهودهم. إلا قليلا منهم دخلوا فى الإِسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها.
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة. فكأنه الله - تعالى - يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئاً مستبعداً، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد: وفيها - أيضاً - تحذير له صلى الله عليه وسلم من شرورهم ومن مسالكم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله { وَلاَ تَزَال } المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم.
وقوله: { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور فى قوله { خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } والمراد بهذا العدد القليل منهم، أولئك الذين دخلوا فى الإِسلام، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله.
ثم ختم سبحانه - الآية بقوله: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } والعفو عدم مقابلة الإِساءة بمثلها.
والصفح: ترك اللوم والمعاتبة. ولذا قالوا: الصفح أعلى رتبة من العفو، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهراً. أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإِساءة كأن لم تكن فى الظاهر والباطن.
وللعلماء أقوال فى المراد بالذين أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنه:
1 - فيرى بعضهم أن المراد بهم، القلة اليهودية التى أسلمت، واستثناها الله بقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهذا الرأى مردود بأنهم ما داموا قد آمنوا، فقد عصموا دماءهم وأموالهم، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع.
2 - ويرى آخرون أن الذين أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهى قوله
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وهذا الرأى ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر - كما سنبين.
3 - ويرى أبو مسلم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم.
والذى نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم، ومجادلتهم بالتى هى أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، مع العفو عن زلاتهم التى لا تؤثر على كيان الدعوة الإِسلامية.
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففى هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التى تقى المسلمين شرورهم، لأن العفو عنهم - عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة - يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو فى غير موضعه. وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم. وربما اعتبر توضيحاً له. فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم، واصفح عن زلاتهم التى لا تؤثر فى سير الدعوة الإِسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم، إن الله تعالى يحب المحسنين.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانباً مما أخذ الله على بنى إسرائيل من عهود ومواثيق، ورغَّبتهم فى الوفاء بها وحذرتهم. من نقضها، كما بينت بعض العقوبات التى عاقبهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبى صلى الله عليه وسلم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقى المسلمين من شرورهم ومكرهم.
وبعد أن بين - سبحانه - جانباً من قبائح اليهود ونقضهم لمواثيقهم عقب ذلك ببيان حال النصارى فقال - تعالى -:
{ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا... }