التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { لاَ تُحِلُّواْ } من الإِحلال الذى هو ضد التحريم. ومعنى عدم إحلالهم لشعائر الله: تقرير حرمتها عملا واعتقادا، والالتزام بها بالطريقة التى قررتها شريعة الله.
والشعائر: جمع شعيرة - على وزن فعلية - وهى فى الأصل ما جعلت شعاراً على الشىء وعلامة عليه من الإِشعار بمعنى الإعلام. وكل شىء اشتهر فقد علم. يقال: شعرت بكذا.
أي علمته.
والمراد بشعائر الله هنا: حدوده التى حدها، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التى أوجبها على عباده.
ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا: مناسك الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب فى أثناء الإحرام. ومن غير ذلك من الأفعال التى نهى الله عن فعلها فى ذلك الوقت فيكون المعنى. لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم.
والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التى كلف الله بها عباده. وقد رجحه ابن جرير بقوله: وأولى التأويلات بقوله: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } قول من قال: لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه. فيدخل فى ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها، نهيا عاماً من غير اختصاص شىء من ذلك دون شىء. فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك".
وأضاف - سبحانه - الشعائر إليه. تشريفا لها، وتهويلا للعقوبة التى تترتب على التهاون بحرمتها. وعلى مخالفة ما أمر الله به فى شأنها.
وقوله: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } معطوف على شعائر الله. والمراد به الجنس. فيدخل فى ذلك جميع الاشهر الحرم. وهى أربعة: ذو العقدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب.
وسمي الشهر حراماً: باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام.
أى: لا تحلوا - أيها المؤمنون - القتال فى الشهر الحرام، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال.
قال ابن كثير: يعنى بقوله: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال كما قال - تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وقال - تعالى -: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } وفى صحيح البخارى عن أبى بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى حجة الوداع: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم" وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال فى الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله -
{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والمراد أشهر التسيير الأربعة. قالوا: فلم يستثن شهراً حراما من غيره.
والمقصود بالهدى فى قوله { وَلاَ ٱلْهَدْيَ } ما يتقرب به الإِنسان إلى الله من النعم ليذبح فى الحرم، وهو جمع هدية - بتسكين الدال -، أي: ولا تحلوا حرمة ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله - تعالى - بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله.
وخص ذلك بالذكر مع دخوله فى الشعائر، لأن فيه نفعا للناس، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره، ولأن فى ذكره تعظيما لشأنه.
وقوله: { وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } جمع قلادة، وهى ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء. وقد كانوا يضعون فى أعناق الهدى ضفائر من صوف، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه.
والمراد: ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء.
وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفاً لها واعتناءً بشأنها. لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. فكأنه قيل: لا تحلوا الهدى وخصوصاً ذوات القلائد منه.
ويجوز أن يراد النهى عن التعرض لنفس القلائد مبالغة فى النهى عن التعرض لذواتها أى: لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله: وأما القلائد ففيها وجهان:
أحدهما: أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهى البدن. وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثانى: أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة فى النهى عن التعرض للهدى، على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها. كما قال
{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة فى النهى عن إبداء مواقعها".
وقوله: { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } معطوف على قوله: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }.
وقوله: { آمِّينَ } جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم. يقال: أممت كذا أى: قصدته أى: ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثواباً. ورضواناً لتعبدهم فى بيته المحرم.
ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضواناً؟
قال بعضهم: المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة. فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله - تعالى - مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميرهم فى قوله { مِّن رَّبِّهِمْ } للتشريف والتكريم.
وجملة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من الضمير المستكن فى قوله { آمِّينَ } وقد جىء بها لبيان مقصدهم الشريف، ومسعاهم الجليل.
أى: قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثواباً من ربهم، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه - سبحانه - عنهم.
وعلى هذا القول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها، وتكون توجيهاً عاماً من الله - تعالى - لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين، مهما حدث بينهم من نزاع أو خلاف.
وقال آخرون: المراد بهم المشركون. واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدى من أن الآية نزلت فى رجل من بنى ربيعة يقال له الحطين بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله إلام تدعو؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فقال له: حسن ما تدعو إليه إلا أن لى أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلى أسلم وآتى بهم. فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به.
ثم أقبل من العام القادم حاجا ومعه تجارة عظيمة. فسأل المسلمون النبى صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم فى التعرض له. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية.
وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة. وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون انهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم من الله، فوصفهم - سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم. ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى -
{ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوى والأخروى ولو فى زعم المشركين.
والذى نراه أولى هو القول الأول، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التى هى حدوده وفرائضه ومعالم دينه، ولأن قوله - تعالى -: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } هذا الوصف إنما يليق بالمسلم دون الكافر، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه - سبحانه -.
قال الفخر الرازى: "أمرنا الله فى هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين. والدليل عليه أول الآية وآخرها.
أما أول الآية فهو: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار.
وأما آخر الآية فهو قوله: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر".
وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال أى شىء من الشعائر التى حرم الله - تعالى - استحلالها، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التى عطفت عليها اهتماماً بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع شهوة الانتقام، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبى، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك.
ثم أتبع - سبحانه - هذا النهى ببيان جانب من مظاهر فضله. حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ }.
أى: وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد، وأبيح لكم أيضاً كل ما كان مباحاً لكم قبل الإحرام.
وإنما خص الصيد بالذكر، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيراً. كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم. والإِشارة إلى أن الذى ينبغى الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا يكون إرضاء للشهوات.
والأمر فى قوله: { فَٱصْطَادُواْ } للإِباحة، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد. بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإِحرام ومثله قوله - تعالى -
{ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أى: أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة.
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال - تعالى -: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ }.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } لزيادة تقرير مضمونه.
ومعنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه، أو معناه: ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب، غير أنه فى كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة.
وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، أطلق على الكسب، لأن الكاسب ينقطع لكسبه.
قال صاحب الكشاف: جرم يجرى مجرى "كسب" فى تعديه إلى مفعول واحد واثنين.
تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. كقولهم: أكسبته ذنبا".
والشنآن: البغض الشديد. يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديداً.
والمعنى: ولا يحملنكم - أيها المؤمنون - بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل، فإن الإِسلام - وهو دين العدل والتسامح - لا يبرره ولا يقبله، ولكن الذى يقبله الإِسلام هو احترام المسجد الحرام، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيمانا، ويفئ العاصى إلى رشده وصوابه.
قال ابن كثير: وقوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أى: ولا يحملنكم بغض قوم، "قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام - وذلك عام الحديبية -، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل فى حق كل أحد.. فإن العدل واجب على كل أحد. فى كل أحد، وفى كل حال. والعدل، به قامت السموات والأرض.
وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وعن زيد بن أسلم، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة. فقال الصحابة. نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية".
وقوله: { شَنَآنُ قَوْمٍ } مصدر مضاف لمفعوله. أى: لا يحملنكم بغضكم قوماً.
وقوله: { أَن صَدُّوكُمْ } - بفتح همزة أن - مفعول لأجله بتقدير اللام. أى: لأن صدوكم فهو متعلق بالشنآن.
وقوله { أَن تَعْتَدُواْ } فى موضع نصب على أنه مفعول به.
أى: لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم.
وقراءة { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة - هى قراءة الجمهور، وهى تشير إلى أن الصد كان فى الماضى، وهى واضحة ولا إشكال عليها.
قال الجمل: وفى قراءة لأبى عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله. وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضى أن الأمر المشروط لم يقع. مع أن الصد كان قد وقع. لأنه كان فى عام الحديبية وهى سنة ست. والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكانت مكة عام الفتح فى أيدى المسلمين فكيف يصدون عنه؟ وأجيب بوجهين:
أولهما: لا نسلم أن الصد كان قيل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه.
والثانى: أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى: إن وقع صد مثل ذلك الصد الذى وقع عام الحديبية - فلا تعتدوا -
قال بعضهم: وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأن النهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل".
ثم أمر الله - تعالى - عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ }.
والبر معناه: التوسع فى فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس.
والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه.
قال القرطبى: قال الماوردى: ندب الله - تعالى - إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له، لأن فى التقوى رضا الله، وفى البر رضا الناس. ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
والإِثم - كما يقول الراغب - اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام، والآثم هو المتحمل للإِثم. ثم أطلق على كل ذنب ومعصية.
والعدوان: تجاوز الحدود التى أمر الشارع الناس بالوقوف عندها.
أى: وتعاونوا - أيها المؤمنون - على كل ما هو خير وبر وطاعة لله - تعالى -، ولا تتعاونوا على ارتكاب الآثام ولا على الاعتداء على حدوده، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدى إلى السعادة، أما التعاون على ما يغضب الله - تعالى - فيؤدى إلى الشقاء.
قال الآلوسى: والجملة عطف على قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } من حيث المعنى، فكأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدى المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه، وتعاونوا على العفو والإِغضاء.
وقال بعضهم: هو استئناف، والوقف على { أَن تَعْتَدُواْ } لازم.
هذا، وفى معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبى مسعود الانصارى قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنى أبدع بى - أى: هلكت دابتى التى أركبها - فاحملنى فقال: ما عندى فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله" وروى الإِمام مسلم - أيضاً - عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" .
وقوله - تعالى - { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإِثم والعدوان. أى: اتقوا الله - أيها الناس - واخشوه فيما أمركم ونهاكم، فإنه - سبحانه شديد العقاب لمن خالف أمره، وانحرف عن طريقه القويم.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم، وعن الإِخلال بشىء من أحكامها كما نهتهم عن أن بحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذى ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته - سبحانه - وحسن مثوبته، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم. ثم حذرتهم فى نهايتها من العقاب الشديد الذى ينزله سبحانه - بكل من عصاه، وانحرف عن هداء.
ثم شرع - سبحانه - فى بيان المحرمات التى أشار إليها قبل ذلك بقوله:
{ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال - تعالى -:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ... }