التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٣
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وردت أحاديث متعددة فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة، ومن ذلك: ما أخرجه البخارى عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم ما تجدون فى التوراة فى شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها.
فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد؛ فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة.
وروى مسلم فى صحيحه عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودى محمم مجلود - أى قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به -.
فدعاهم فقال. هكذا تجدون حد الزانى فى كتابكم؟ فقالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: انشدك بالذى أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزانى فى كتابكم؟ فقال: لا والله ولولا أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك، تجد حد الزانى فى كتابنا الرجم، ولكنه كثر فى أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد - مكان الرجم.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله - تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ }.
وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل:
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } ) ( { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } ) ( { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } قال ابن عباس: أنزلها الله فى الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى فى الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا. وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبى صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة: وهل كان فى حيين دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هاذ خوفا منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم. ولقد صدقوا. ما أعطونا هذا إلا خوفا منا. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم لا تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ } إلى قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } قال ابن كثير - بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها - فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة. وليس هذا من باب الإِكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدى لا محالة، ولكن هذا بوحى خاص من الله - تعالى - إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذى بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوه لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } أى: إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أى: وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه.
وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التى وردت فى سبب نزول الآيات، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفى كتب السنة المعتمدة، وأن بعضها قد حكى أن الآيات نزلت فى شأن القضية التى تحاكم فيها اليهود إلى النبى صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت فى قضية دماء. ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فقد يكون هذان السببان قد حصلا فى وقت واحد، أو متقارب، فنزلت هذه الآيات فيهما معا. وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات.
هذا، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال - سبحانه -: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ }.
قال القرطبى: قوله - تعالى - { لاَ يَحْزُنكَ } قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاى وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاى. والحزن خلاف السرور. ويقال: حزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين".
والمعنى: يأيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك: لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين، وبأولئك اليهود الذين يقعون فى الكفر بسرعة ورغبة، ويقولون بأفواهم آمنا بك وصدقناك، مع أن قلوبهم خالية من الإِيمان، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان.. لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء جميعا، فإنى ناصرك عليهم، وكافيك شرهم.
وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين، أو كفر الكافرين، فإن تكاليف الرساله تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم.
والنهى عن الحزن - وهو أمر نفسى لا اختيار للإِنسان فيه - المراد به هنا: النهى عن لوازمه، كالإِكثار من محاولة تجديد شأن المصائب. وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام، وتعز السلوى.
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وفى التعبير بقوله: { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } ذم لهم على انحدارهم فى دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر. فهم يتنقلون بحركات سريعة فى ثنايا الكفر ومداخله دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين.
قال صاحب الكشاف: يقال: اسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد بمعنى: وقع فيه سريعا. فكذلك مسارعتهم فى الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها".
وقال أبو السعود: والمسارعة فى الشىء: الوقوع فيه بسرعة ورغبة. وإيثار كلمة { فى } على كلمة إلى، للإِيمان إلى أنهم مستقرون فى الكفر لا يبرحونه.
وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكيد للإِسلام ونحو ذلك".
وقوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } بيان لأولئك المسارعين فى الكفر. والمتنقلين فى دركاته من دركة إلى دركة.
وقوله { بأفواههم } متعلق بقوله: { قالوا } وقوله: { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملة حالية من ضمير، قالوا.
وقوله: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } معطوف على قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِم } وعليه فيكون الذين هادوا داخلين فى الذين يسارعون فى الكفر.
أى أن المسارعين فى الكفر فريقان: فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإِسم واشتركوا مع المنافقين فى نفاقهم والمعنى: لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإِيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه.
وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ }، ويكون ما بعده وهو قوله: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ }. إلخ. من أوصاف الفريقين معا، لأنهم مشتركون فى المسارعة فى الكفر.
ومنهم من يرى أن قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } جملة مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود، وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } الخ. من أوصاف هؤلاء اليهود، وأن الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وأن البيان بقوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } لفريق المنافقين.
قال الفخر الرازى: قوله { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين:
الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } ثم يبدأ الكلام من قوله { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.
الثانى: أن الكلام تم عند قوله - تعالى - : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابتدأ من قوله: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير فقوله { سماعون } صفة لمحذوف. والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون.
قال الجمل: الأولى والأحسن أن يكون قوله: و { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } معطوفا على البيان وهو قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا } فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود. أما على القول الثانى فيكون البيان بشىء واحد وهو المنافقون".
وقوله: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ؛ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون فى الكفر بسرعة ورغبة.
وقوله: { سماعون } جمع سماع. وهو صيغة مبالغة جىء بها لافادة أنهم كثيرو السماع للكذب، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة فى الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم، ومن هم على شاكلتهم فى العناد والضلال.
واللام فى قوله: { للكذب } للتقوية أى: أنهم يسمعون الكذب كثيراً سماع قبول وتلذذ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإِسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها.
وقيل إن اللام للتعليل أى أنهم كثيرو السماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة.
وقوله: { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة، وتقبلها بفرح وسرور.
أى: أن هؤلاء المسارعين فى الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثيرو السماع للأكاذيب التى يروجها أعداء الدعوة الإِسلامية ضدها كثيرو السماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا.
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كثيرو السماع للكذب عن محبة ورغبة، وأنهم كثيرو السماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين - من أشباههم فى الكفر والعناد - ولم يحضرو مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق. كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق.
وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله: ومعنى { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ }: قابلون لما بفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه، من قولك: الملك يسمع كلام فلان، ومنه سمع الله لمن حمده.
وقوله: { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرد فيهم من شدة البغضاء. وتبالغ من العداوة، أى: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين فى العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهودهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه".
وقوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً. أو للمسارعين فى الكفر من الفريقين.
وقوله: { يُحَرِّفُونَ } من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشىء.
ومعناه إمالة الكلام عن معناه، وإخراجه عن أطرافه وحدوده.
والكلم: اسم جنس جمعى للفظ كلمة ومعناه الكلام.
أى أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك، أو هم والمسارعون فى الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه. فهو يحرفون كلامك يا محمد، ويحرفون التوراة، ويحرفون معانى القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذى جئت به تارة تحريفاً لفظياً، وتارة تحريفاً معنوياً، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل.
وقوله: { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أى: يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها.
وعبر هنا "من بعد مواضعه" وفى مواطن أخرى بقوله
{ عَن مَّوَاضِعِهِ } لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التى حاول أولئك المسارعون فى الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعاً لأهوائهم كما حدث فى قضية الزنا وفى غيرها من القضايا التى تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله: { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أى: من بعد استقرار مواضعه وثبوتها لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإِهمال.
وقوله: { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال.
أى: أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم. بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم: يقولن لهم عندما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } أى: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذى نفتيكم به - كالجلد والتحميم بدل الرجم - فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أى: وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه، وإياكم أن تستجيبوا له، أو تميلوا إلى ما قاله لكم.
واسم الإِشارة هذا فى قوله: { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } يعود إلى القول المحرف الذى تواضع أحبار اليهود على الإِفتاء به تبعاً لأهوائهم. كما حدث منهم فى قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم.
وفى ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل.
وقوله: { إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعول لقوله: { يقولون }. واسم الإِشارة { هذا } مفعول ثان "لأوتيتم" والأول نائب الفاعل وقوله: { فخذوه } جواب الشرط ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
أى: ومن يقض الله بكفره وضلاله، فلن تملك له - أيها الرسول الكريم - شيئا من الهداية لتدفع بها ضلالة وكفره، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله - تعالى - أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى، { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } أى: فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم، وفساد نفوسهم، وانتشار تعاليم الإسلام التى يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم.
{ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو خلودهم فى النار بسبب اجتراحهم السيئات، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة.
ثم كشف - سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال - تعالى -: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }.
والسحت: هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام.
وقد بسط الإِمام القرطبى هذا المعنى فقال: والسحت فى اللغة أصله الهلاك والشدة.
قال - تعالى -
{ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أى: - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب - ويقال للحالق: أسحت أى استأصل. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع. يقال رجل مسحوت المعدة أى: أكول، فكأن بالمسترشى وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذى بالمسحوت المعدة من النهم.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة فى الحكم" .
وقال بعضهم: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه. وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها".
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم - أيضا - أنهم كثيرو السماع للكذب، وكثيرو الأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه. ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا، ولا تؤمل فيه رشدا.
وقوله: { سماعون } خبر لمبتدأ محذوف أى: هم سماعون. وكرر تأكيدا لما قبله، وتمهيداً لما بعده وهو قوله: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }.
وجاءت هاتان الصفتان - سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة، للإِيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم. فهم يستمرئون سماع الباطل من القول، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل:
إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا فى كل زمان بتقبل السحت، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال: { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }.
أى: فإن جاءك هؤلاء اليهود متحاكمين إليك - يا محمد - فى قضاياهم، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم، وإن تعرض عنهم، فيما احتكموا فيه إليك، قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشىء من كيدهم، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم فى قضاياهم، فليكن حكمك بالعدل الذى أمرت به، لأن الله - تعالى - يحب العادلين فى أحكامهم.
والفاء فى قوله: { فَإِن جَآءُوكَ } للإِفصاح أى: إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }.
وجاء التعبير بإن المفيدة للشك - مع أنهم قد جاءوا إليه - للإيذان بأنهم كانوا مترددين فى التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه.
قال أبو السعود: وقوله: { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما. وتقديم حال الإِعراض، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه، حيث كان مظنة الضرر، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له، فأمنه الله بقوله: { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } من الضر.
وكان التعبير بإن أيضا فى قوله { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ } للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصاً على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون، والدليل على ذلك أن التوراة التى بين أيديهم فيها حكم الله، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضى بينهم بغير ما أنزل الله، فيشيعوا ذلك بين الناس، ويعلنوا عدم صدقه فى نبوته، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضى بينهم.
يقال: أقسط الحاكم فى حكمه، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أى عادل ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }.
روى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا" .
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتى:
1 - أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن أى طريق محرم سواها.
ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال. وينفرون من الحرام، بل ومن الشبهات، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا.
قال ابن جرير: شفع مسروق لرجل فى حاجة فأهدى إليه جارية، فغضب مسروق غضباً شديدا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت فى حاجتك، ولا أكلمه فيما بقى من حاجتك. سمعت ابن مسعود يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقا، أو يرفع بها ظلما، فأهدى له، فقيل، فهو سحت".
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى الله عليه وسلم: الرشوة فى الحكم" .
وعن الحكم بن عبد الله قال: قال لى أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة فإنها سحت. وكان أبوه على شرط المدينة".
قال بعض العلماء: والرشوة قد تكون فى الحكم وهى محرمه على الراشى والمرتشى. وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"لعن الراشى والمرتشى والذى يمشى بينهما" لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقاً من جهة أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به. وإن حكم بالباطل كان فاسقًا من جهة أنه أخذ الرشوة. ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة فى غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها، فقد روى عن الحسن أنه قال:
"لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه" . وروى عن جابر بن زيد والشعبى أنهما قالا: "لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم".
وقد ورد
"أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة، أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف. فقال صلى الله عليه وسلم اقطعوا لسانه" فزادوه حتى رضى. فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه".
2 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى -: { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا فى الحكم بين أهل الكتاب أو الإِعراض عنهم، وأن حكم التخيير غير منسوخ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك.
ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله - تعالى - بعد ذلك
{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم.
وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية.
أما قوله:
{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له.
ويرى فريق ثالث من العلماء: أن التخيير ورد فى المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبنى النضير وبنى قريظة، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم:
وقوله - تعالى -
{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } ورد فى أهل الذمة الذين لهم مالنا وعليهم ما علينا. وعلى هذا فلا نسخ فى الآية.
قال الآلوسى: قال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإِسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود، إلا فى بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، واختلف فى مناكحتهم، فقال أبو حنيفة: يقرون عليها، وخالفه - فى بعض ذلك. محمد وزفر. وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضى بأحكامنا؛ فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل فى كتب الفروع.
3 - أخذا العلماء من هذه الآية - أيضاً - أن الحاكم ينفذ حكمه فيما حكم فيه لأن اليهود حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض قضاياهم، فحكم فيهم بما أنزل الله، ونفذ هذا الحكم عليهم.
قال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم بشريعة موسى - عليه السلام - ولكن هذا الحكم كان قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأى حاكم أن يحكم بغير الأحكام الإِسلامية لا فرق بين المسلمين وغيرهم.
هذا، وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباهم بجملة من الصفات القبيحة، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم فيهم بشرع الله وبين أن يعرض عنهم. بعد كل ذلك أنكر عليهم مسالكهم الخبيثة، وعجب كل عاقل من حالهم فقال - تعالى -: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِين } أى أن أمر هؤلاء اليهود لمن أعجب العجب، لأنهم يحكمونك - يا محمد - فى قضاياهم مع أنهم لم يتبعوا شريعتك ومع أن كتابهم التوراة قد ذكر حكم الله صريحا واضحا فيما يحكمونك فيه.
فالاستفهام فى قوله: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } للتعجب من أحوالهم حيث حكموا من لا يؤمنون به قضية حكمها بين أيديهم، ظنا منهم أنه سيحكم بينهم بما اتفقوا عليه مما يرضى أهواءهم وشهواتهم.
وقوله: { وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ } جملة حالية من الواو فى { يحكمونك } والعامل ما فى الاستفهام من التعجيب.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت { فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } ما موضعه من الإِعراب؟ قلت: إما أن ينتصب على الحال من التوراة، وكلمة التوراة، وكلمة التوارة هى مبتدأ والخبر { عندهم }، وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وإما أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره.
وقوله: { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } معطوف على (يحكمونك).
وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى للإِشارة إلى التفاوت الكبير بين ما فى التوراة من حق وبين ما هم عليه من باطل ومخادعة.
واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى حكم الله الذى فى التوراة، والذى حكم به النبى صلى الله عليه وسلم.
أى: كيف يحكمونك يا محمد فى قضاياهم والحال أنهم عندهم التوراة فيها حكم الله واضحاً فيما تحاكموا إليك فيه، ثم هم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما قضى الله به فى كتابهم التوراة.
وقوله: { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
ونفى الإِيمان عنهم مع حذف متعلقة لقصد التعميم.
أى: وما أولئك الذين جاءوا يتحاكمون إليك من اليهود بالمؤمنين لا بكتابهم التوراة. لأنهم لو كانوا مؤمنين به لنفذوا أحكامه، ولا بك يا محمد لأنهم لو كانوا مؤمنين بك استجابوا لك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه.
قال الفخر الرازى: قوله - تعالى -: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } ..الخ: هذا تعجيب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما فى التوراة من حد الزانى، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة. فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم فى هذه الواقعة من وجوه:
أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم.
والثانى: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل.
والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه. فبين الله حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتريهم مغتر أنهم أهل كتاب الله، ومن المحافظين على أمر الله".
وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة، كمسارعتهم فى الكفر. وكثرة سماعهم للكذب، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، وتهافتهم على أكل السحت. وبعد أن خير رسوله صلى الله عليه وسلم فى أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم. بعد كل ذلك شرع - سبحانه - فى بيان منزلة التوراة وفى بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال - تعالى -:
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا... }