التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
٥٥
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٥٦
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { مَن يَرْتَدَّ } من الارتداد. ومعناه: الرجوع إلى الخلف ومنه قوله - تعالى - { رُدُّوهَا عَلَيَّ } أى: ارجعوها على. وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ } والمراد بالارتداد هنا: الرجوع عن دين الإِسلام إلى الكفر والضلال، والخروج من الحق الذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الأباطيل والأكاذيب.
قالوا: وفى هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن من الذين دخلوا فى الإِسلام من سيرتد عنه إلى غيره من الكفر والضلال، وقد كان الأمر كما أشارت الآية الكريمة؛ فقد ارتد عن الإِسلام بعض القبائل كقبيلة بنى حنيفة - قوم مسيلمة الكذاب - وقبيلة بنى أسد، وقبيلة بنى مدلج وغيرهم.
وقد تصدى سيدنا أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين الصادقين للمرتدين فكسروا شوكة الردة، وأعادوا لكلمة الإِسلام هيبتها وقوتها.
قال الآلوسى ما ملخصه: هذه الآية من الكائنات التى أخبر عنها القرآن قبل وقوعها - وقد وقع المخبر به على وفقها فيكون معجزاً - فقد روى أنه ارتد عن الإِسلام إحدى عشرة فرقة.
ثلاث فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم: "بنو مدلج، ورئيسهم الأسود العنسى و "بنو حنيفة" قوم مسيلمة الكذاب و "بنو أسد" قوم طليحة بن خويلد الأسدى. وسبع فى عهد أبى بكر وهم: فزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بنى تميم، وكنده، وبنو بكر ابن وائل.
وارتدت فرقة واحدة فى عهد عمر وهى قبيلة "غسان قوم جبلة بن الأيهم".
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يتخد أحد منكم أحدا من أعداء الله وليا ونصيراً لأن ولايتهم تفضى إلى مضرتكم وخسرانكم. بل وإلى ردتكم عن الحق الذى آمنتم به، ومن يرتدد منكم عن دينه الحق إلى غيره من الأديان الباطلة فلن يضر الله شيئا، لأنه - سبحانه - سوف يأتى بقوم آخرين مخلصين له، ومطيعين لأوامره، ومستجيبين لتعاليمه. بدل أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم، وكفروا بعد إيمانهم. قال - تعالى -:
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } ولفظ { فسوف } جىء به هنا لتأكيد وقوع الأمر فى المستقبل، إذا ما ارتد بعض الناس على أدبارهم.
وقد وصف الله - تعالى - أولئك القوم الذين يأتى بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، وصفهم بعدد من الصفات الحميدة، والسجايا الكريمة.
وصفهم - أولا - بقوله: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }.
ومحبة الله - تعالى - للمؤمنين هى أسمى نعمة يتعشقونها ويتطلعون إليها، ويرجون حصولها ودوامها. وهى - كما يقول الآلوسى - محبة تليق بشأنه على المعنى الذى أراده.
ومن علاماتها: أن يوفقهم - سبحانه - لطاعته، وأن ييسر لهم الخير فى كل شئونهم.
ومحبة المؤمنين لله - تعالى - معناها: التوجه إليه وحده بالعبادة، واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما جاء به، والاستجابة لتعاليمه برغبة وشوق.
وقوله: { يحبهم } جملة فى محل جر صفة لقوم. وقوله "يحبونه" معطوف على { يحبهم }.
وقدم - سبحانه - محبته لهم على محبتهم له، لشرفها وسبقها، إذ لولا محبته لهم لما وصلوا إلى طاعته.
وصفهم - ثانياً - بقوله: { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }.
وقوله: { أذلة } جمع ذليل، من تذلل إذا تواضع وحنا على غيره، وليس المراد بكونهم أذلة أنهم مهانون، بل المراد المبالغة فى وصفهم بالرفق ولين الجانب للمؤمنين.
وقوله: { أعزة } جمع عزيز وهو المتصف بالعزة بمعنى القوة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر ومن قوله - تعالى -
{ وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أى: غلبنى فى الخطاب.
والمعنى: إن من صفات هؤلاء القوم الذين يأتى الله بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، أنهم أرقاء على المؤمنين، عاطفون عليهم متواضعون لهم، تفيض قلوبهم حنوا وشفقة بهم. وأنهم فى الوقت نفسه أشداء على الكافرين، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب، لا نظرة الضعيف الخانع.
وهذه - كما يقوال ابن كثير - صفات المؤمنين الكمل. أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه كما قال - تعالى -:
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ومن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنه الضحوك القتال" فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه".
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.
والثانى: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين - خافضون لهم أجنحتهم.
وقال الطيبى: إن قوله - تعالى - { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } جىء به للتكميل، لأنه لما وصفهم قبل ذلك بالتذلل، ربما يتوهم أحد أنهم أذلاء محقرون فى أنفسهم فدفع ذلك الوهم بأنهم مع ذلتهم على المؤمنين أعزة على الكافرين على حد قول القائل:

جلوس في مجالسهم رزانوإن ضيم ألم بهم خفاف

ثم وصفهم - ثالثا - بقوله: { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } وقوله: { يُجَاهِدُونَ } من المجاهدة وهى بذل الجهد ونهاية الطاقة من أجل الوصول إلى المقصد الذى يسعى إليه الساعى.
وقوله: { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى فى سبيل إعلاء دين الله، وإعزاز كلمته وليس فى سبيل الهوى أو الشيطان.
واللومة: هى المرة الواحدة من اللوم. وهو بمعنى اعتراض المعترضين، ومخالفة المخالفين وعدم رضاهم عن هؤلاء القوم.
والمعنى: أن من صفات هؤلاء القوم - أيضا - أنهم يبذلون أقصى جهدهم فى سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على مرضاته، وأنهم فى جهادهم وجهرهم بكلمة الحق، وحرصهم على ما يرضيه - سبحانه - لا يخافون لوما قط من أى لائم كائنا من كان. لأن خشيتهم ليست إلا من الله وحده.
وعبر - سبحانه - بلومة - بصيغة الإِفراد والتنكير، للمبالغة فى نفى الخوف عنهم سواء أصدر اللوم لهم من كبير أم من صغير، وسواء أكانت اللومة شديدة أم رفيقة..
فهم - كما يقول الزمخشرى -: صلاب فى دينهم، إذا شرعوا فى أمر من أمور الدين لإِنكار منكر أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم، والجملة على هذه معطوفة على { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }. ويحتمل أن تكون الواو للحال. أى أنهم يجاهدون وحالهم فى المجاهدة خلاف حال المنافقين الذين كانوا إذا خرجوا فى جيش المؤمنين خافوا أولياؤهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم".
وقد ذكر المفسرون أقوالا متعددة فى المراد بهؤلاء القوم الذين وصفهم الله - تعالى - بتلك الصفات الكريمة، والذين يأتى بهم بدل أولئك الذين يرتدون على أعقابهم.
قال بعضهم: المراد بهم أبو بكر ومن معه من المؤمنين الذين قاتلوا المرتدين.
وقال آخرون: المراد بهم الأنصار الذين نصروا النبى - صلى الله عليه وسلم - وأيدوه.
وقال مجاهد: المراد بهم أهل اليمن... وقيل غير ذلك.
والذى نراه أنهم قوم ليسوا مخصوصين بزمن معين أو بلد معين، أو أشخاص معينين، وإنما هم كل من تنطبق عليهم هذه الصفات الجليلة. فكل من أحب الله وأحبه الله، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين. وجاهد فى سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم، أما ذواتهم فيعلمها الله وحده، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فى بيان المراد بهؤلاء القوم.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يعود على ما تقدم ذكره من أوصاف القوم.
أى: ذلك الذى أعطيناه لهم من صفات كريمة فضل الله وإحسانه، يؤتيه من يشاء إيتاءه من عباده، والله - تعالى - واسع الفضل والجود والعطاء، عليم بأحوال خلقه، لا تخفى عليه خافية من شئونهم.
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب المجاهدة فى سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق قتال أعدائه - سبحانه - أو عن طريق الجهر بكلمة الحق، أو عن طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل - دون أن يخاف المجاهد لومة لائم.
ولقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فى هذا المعنى ومن ذلك:
ما رواه الإِمام أحمد عن أبى ذر: "أمرنى خليلى صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنى بحب المساكين والدنو منهم، وأمرنى أن أنظر إلى من هو دونى ولا أنظر إلى من هو فوقى، وأمرنى أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرنى أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرنى أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرنى أن لا أخاف فى الله لومة لائم، وأمرنى أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن كنز تحت العرش".
وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم" .
وعنه - أيضاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: أن يرى أمر الله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة. ما منعك أن تكون قلت فى كذا وكذا؟ فيقول مخافة الناس. فيقول: إياى أحق أن تخاف" .
وهناك أحاديث أخرى فى هذا المعنى سوى التى ذكرها الإِمام ابن كثير ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى المنشط والمنكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنا. لا نخاف فى الله لومة لائم".
ثم بين - سبحانه - من تجب موالاتهم، بعد النهى عن تولى من تجب معاداتهم فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }.
أى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ } المفيض عليكم كل خير، والمرجو وحده فى الشدائد والكروب { وَرَسُولُهُ } الذى أخرجكم - بإذنه تعالى - من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد. { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الذين هم منكم وأنتم منهم والذين { يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } فى مواقيتها بخشوع وإخلاص { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } لمستحقيها بسماحة وطيب نفس { وَهُمْ رَاكِعُونَ } أى: خاشعون متواضعون لله، وليسوا مرائين أو منانين.
وقوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ } جملة من مبتدأ وخبر. وقوله: { وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } معطوف على الخبر.
قال صاحب الكشاف: ومعنى { إنما } وجوب اختصاصهم بالمولاة. فإن قلت قد ذكرت - الآية - جماعة فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم فى سلك إثباتها له، إثباتها لرسوله وللمؤمنين على سبيل التبع. ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن فى الكلام أصل وتبع.
والمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وليس فردا معينا منهم.
قال - تعالى -:
{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وما ورد من آثار تفيد أن المراد بالذين آمنوا شخصا معينا وهو على بن أبى طالب - رضى الله عنه - لا يعتمد عليها، لأنهما كما يقول ابن كثير - "لم يصح شىء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها".
وقد توسع الإِمام الرازى فى الرد على الشيعة الذين وضعوا هذه الآثار فارجع إليه إن شئت.
وقوله: { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } بدل من الذين آمنوا.
وهما وصفان لهما ساقهما - سبحانه - على سبيل الثناء عليهم والمدح لهم.
وقوله: { وَهُمْ رَاكِعُونَ } حال من فاعل الفعلين - يقيمون ويؤتون - .
أى: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون خاضعون لله - تعالى - إذ الركوع قد يطلق بمعنى الخضوع لله - تعالى - :
قال الراغب: الركوع: الانحناء وتارة يستعمل فى الهيئة المخصوصة فى الصلاة، وتارة يستعمل في التذلل والتواضع إما فى العبادة وإما فى غيرها".
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الذين يوالون الله ورسوله والمؤمنين فقال: { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ }. والحزب معناه الجمع من الناس يجتمعون على رأى واحد من أجل أمر حَزَبهم أى أهمهم وشغلهم.
والمعنى: { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ } - تعالى - بأن يطيعه ويتوكل عليه، ويتول { رسوله } بأن يتبعه ويتأسى به، ويتول { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بأن يناصرهم ويشد أزرهم ويتعاون معهم على البر والتقوى، من يفعل ذلك لا شك فى حسن عاقبته وظفره بالفلاح والنصر { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } لغيرهم من الأحزاب الأخرى التى استحوذ عليها الشيطان.
و { من } فى قوله { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ } شرطية، وقوله: { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } دليل على جواب الشرط.
أى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا يكن من حزب الله المنتصر القوى، فإن حزب الله هم الغالبون.
وقال - سبحانه - فإن حزب الله، ولم يقل حزب الله ورسوله، للإِشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بأمر من الله - تعالى - وإنه صلى الله عليه وسلم لا يستمد العون والنصرة إلا منه - سبحانه -.
وقال بعض العلماء: وقوله - تعالى - { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُون } معناه: فإنهم الغالبون.
فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى { من } دلالة على علة الغلبة.
وهو أنهم حزب الله. فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله،
وحزب الله هم الغالبون. تنويها بذكرهم، وتعظيما لشأنهم، وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا لمن يوالى غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان".
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين نهيا شديدا عن موالاة أعداء الله، لأن موالاتهم قد تجر إلى الارتداد عن الدين الحق، ومن يرتد عن الدين الحق فلن يضر الله شيئاً، لأنه سبحانه - قادر على أن يأتى بقوم آخرين صادقين فى إيمانهم بدل أولئك الذين ارتدوا على أعقابهم. كما نراها قد أرشدت المؤمنين إلى من تجب موالاتهم، وبشرتهم بالفلاح والنصر متى جعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإِخوانهم فى العقيدة والدين.
ثم كرر - سبحانه - نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم الذين استخفوا بتعاليم الإِسلام، وشعائر دينه فقال - تعالى -:
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ... }