التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٣
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة فى معناها، ومن ذلك ما رواه الترمذى عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال: فنزلت { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } الآية.
وعن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر "لما نزل تحريم الخمر" فنزلت { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية.
وروى الإِمام أحمد من حديث أبى هريرة أنه بعد أن نزل قوله - تعالى -
{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } الآيات، قال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا فى سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؛ وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟ فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } الآية.
قال القرطبى: وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شىء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغى أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر فى بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإِباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله - تعالى - وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله التوهم بقوله: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } الآية.
وقال الآلوسى: وقيل إن هذه الآية نزلت فى القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار".
وقوله - تعالى - { فِيمَا طَعِمُوۤاْ } أى: ذاقوا، مأخوذ من الطعم - بالفتح - وهو تذوق الشىء والتلذذ به، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا.
قال القرطبى: وأصل هذه الكلمة فى الأكل. يقال: طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز فى ذلك فيقال: لم أطعم خبزاً ولا ماء ولا نوماً".
والمعنى: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أى: حرج أو إثم { فِيمَا طَعِمُوۤاْ } أى فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله - تعالى - وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم.
وقوله: { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } تحريض للمؤمنين على الأزدياد من الإِيمان والتقوى والعمل الصالح.
أى: إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول، وثبتوا على الإِيمان، وأكثروا من الأعمال الصالحات.
وقوله: { ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } معطوف على ما قبله.
أى: ثم استمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله، والإِيمان الحق به - سبحانه - فتكرير التقوى والإِيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك، مع تمسكهم بما يقتضيه الإِيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر.
وقوله: { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } معطوف على ما قبله - أيضاً - لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإِكثار من العمل الصالح، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه.
وقوله: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإِيمان والتقوى والإِحسان، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة.
أى: والله - تعالى - يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامهم بالوقوف عند حدود الله، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم يرغبة ومسارعة، وإلى غيرهم بمد يد العون إليهم.
فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده، ورأفته بهم؛ حيث بين لهم: أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله - تعالى - لا يؤاخذه على ذلك. لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه.
وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع فى هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده، ورحمته بهم.
هذا، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة.
أما المسألة الأولى فهى: كيف شرط الله في رفع الجناح أى الإِثم عن المطعومات والمشروبات الإِيمان والتقوى، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين؟
وقد قالوا فى الإِجابة على ذلك: إن تعليق نفى الجناح أى الإِثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها؛ فإن نفى الإِثم عن الذى يتناول المباح قبل أن يحرم لا يشترط بشرط، وإنما تعليق نفى الجناح بهذه الأحوال - وهى التقوى والإِيمان - وارد على سبيل المدح لهم، والثناء عليهم؛ والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات، ولإِدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقنوا بأن من تعاطى شيئًا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاهاه بعد تحريمها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله!! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت الآية { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ }.. إلخ يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم فى أى شىء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا، على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم فى الإيمان والتقوى والإِحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد جناح فيما فعل؟ فتقول: وقد علمت أن ذلك أمر مباح: ليس على أحد جناح فى المباح إذا اتقى المحارم، وكان مؤمنا محسناً. تريد: أن زيداً تقى مؤمن محسن، وأنه غير مؤاخذ بما فعل".
وقال أبو السعود ما ملخصه: ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها فى انتفاء الجناح. وإنما ذكرت فى حيز { إذا } شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمداً لأحوالهم. فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا فى طاعته تعالى: مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشىء تلقوه بالامتثال، وإنما كننوا يتعاطون الخمر والميسر فى حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك، ولو حرما فى عصرهم لا تقوهما بالمرة".
وأما المسألة الثانية التى كثرت أقوال المفسرين فيها فهى: تكرار التقوى مرة مع الإِيمان والعمل الصالح. ومرة مع الإِيمان ومرة مع الإِحسان؟
وقد ذكر القرطبى فى ذلك أربعة أقوال فقال:
الأول: أنه ليس فى ذكر التقوى تكرار، والمعنى: اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم، أو على معنى إضافة الإِحسان إلى الاتقاء.
والثانى: اتقوا قبل التحريم فى غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقى من أعمالهم وأحسنوا العمل.
الثالث: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثانى ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، والمعنى الثالث، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أى تنفلوا.
الرابع: قال ابن جرير: الاتقاء الأول: هو الاتقاء بتلقى أمر الله بالقبول والتصديق، والدينونة به العمل. والاتقاء الثانى: الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث: الاتقاء بالإِحسان والتقرب بالنوافل".
والذى يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله. فإن المؤمن بمداومته على خشيته - سبحانه - يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل فى إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإِحسان التى ترفعه إلى أعلى عليين، والتى عرفها النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .
ولقد بين لنا القرآن فى مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات. ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقال تعالى - { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِيمَاناً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله - تعالى - لن يؤاخذهم بما تعاطوه من محرمات قبل تحريمها. وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له، وخشيتهم منه حتى لقوه - عز وجل -.
وبعد أن حذر الله - تعالى - المؤمنين من تعاطى المنكرات كالخمر والميسر وبين لهم حكم من الآيات قبل تحريم هذه الأشياء بعد كل ذلك بين - سبحانه - بشىء من التفصيل بعض الأحكام التى تتعلق بالصيد فقال - تعالى -
{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... }