التفاسير

< >
عرض

جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٩٩
قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠٠
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: "اعلم أن اتصال هذه الآية - { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ } بما قبلها هو ان الله - تعالى - حرم فى الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم. فبين أن الحرم أنه سبب لأمن الوحش والطير. فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات فى الدنيا والآخرة".
والكعبة فى اللغة: البيت المكعب أى المربع. وقيل المرتفع.
قال القرطبى: وقد سميت الكعبة كعبة، لأنها مربعة.. وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل نأتئ بارز كعب، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة، وكعب ثدى المرأة إذا ظهر فى صدرها".
وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى صير فيتعدى لاثنين أولهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خالق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله: { قياما } حال من البيت الحرام.
والبيت الحرام: بدل من الكعبة أو عطف بيان جىء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعارا بشرفه، حيث حرم - سبحانه - القتل فيه، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم.
وقوله { قياما } أصله قواماً فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
والقيام والقوام ما به صلاح الشىء، كما يقال: الملك العادل قوام رعيته. لأنه يدبر أمرهم ويردع ظالمهم، ويحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم.
والمراد بالشهر الحرام: الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهى: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
وقيل المراد به شهر ذى الحجة فحسب، لأنه هو الذى تؤدى فيه فريضة الحج، فالتعريف للعهد وليس للجنس.
والهدى: اسم لما يهدى إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى - وهو جمع هدية - بسكون الدال -.
والقلائد جمع قلادة وهى ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.
فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التى تساق إلى الحرم لذبحها فيه، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر.
وقيل المراد بها: ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره فى أعناقهم عندما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء.
وقوله: { وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } معطوف على ما قبله وهو الكعبة.
والمعنى: اقتضت حكمة الله - تعالى - ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التى هى البيت الحرام { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } أى به قوامهم فى إصلاح أمورهم دينا ودنيا، وكذلك جعل الأشهر الحرم والهدى وخصوصاً ما يقلد منه قياماً للناس أيضاً.
وذلك لأن البيت الحرام الذى يأتى الناس إليه من كل فج عميق، يجدون فى رحابه ما يقوى إيمانهم، ويرفع درجاتهم، ويغسل سيئاتهم، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع، وبذل الأموال، والشعور بالأمان والاطمئنان، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التى ترضى الله - تعالى -، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته.
ولأن الأشهر الحرم تأتى للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها، فتهدأ نفوسهم، ويحصل التآلف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادى ولأن الهدى والقلائد التى يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء. وإشاعة روح المحبة والتسامح والإِخاء.
ورحم الله الإِمام القرطبى حيث يقول: "والحكمة فى جعل الله - تعالى - هذه الأشياء قياما للناس، أن الله - سبحانه - خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة. فلم يكن بد فى الحكمة الإِلٰهية من وازع يزعهم - أى يزجرهم - عن التنازع، ويحملهم على التآلف، ويرد الظالم عن المظلوم، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: "ما يزع الإِمام أكثر مما يزع القرآن".
فجعل - سبحانه - الخليفة فى الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم فى قلوبهم البيت الحرام، وأوقع فى نفوسهم هيبته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.
ولما كان لهذا البيت موضعا مخصوصا - ومكانا معينا - لا يدركه كل مظلوم، فقد جعل - سبحانه - الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر فى قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا - أى نفسا - ولا يطلبون فيها دما، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه".
واسم الإِشارة فى قوله: { ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
يعود على الجعل المذكور الذى هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس، أى؛ صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.
والمعنى: فعل الله - تعالى - ذلك لتعلموا أنه - سبحانه - يعلم علما تاما شاملا ما فى السمٰوات وما فى الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه - سبحانه - يعلم ما فى السمٰوات وما فى الأرض. وعلى أنه بكل شىء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما فى هذا الكون: وكرر - سبحانه - "ما. وفى" فى المعطوف والمعطوف عليه للإِشارة إلى دقة العلم وشموله، وأنه - سبحانه - لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.
قال الجمل: واسم الإِشارة { ذلك } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: الحكم الذى حكمناه ذلك لا غير.
والثانى: أنه مبتدأ وخبره محذوف أى: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.
والثالث: أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق. أى: شرع الله ذلك. وهذا أقواها، لتعلق لام العلة به. وقوله { لتعلموا } منصوب بإضمار أن بعد لام كى. وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } معطوف على ما قبله وهو { أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
ثم رهب الله - تعالى - عباده من عقابه؛ ورغبهم فى ثوابه فقال: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: اعلموا - أيها الناس - أن الله شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وتجاوز حدوده وأنه - سبحانه - واسع المغفرة والرحمة لمن أطاعه وتاب إليه توبة صادقة.
وفى تصدير الآية الكريمة بفعل الأمر { اعلموا } تنبيه شديد إلى أهمية ما سيلقى عليهم من أمر أو نهى، حتى يستقر فى قلوبهم، ويرسخ فى نفوسهم، فيسهل عليهم تنفيذه.
وجمع - سبحانه - بين الترهيب والترغيب، حتى يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، فلا يقنط من رحمة الله ولا يجترئ على ارتكاب ما يغضبه - سبحانه - .
وبعد هذا الترغيب والترهيب بين - سبحانه - وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { ما عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }.
وأصل البلاغ - كما يقول القرطبى - وهو الوصول. يقال: بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا. وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة. لأنها إيصال المعنى إلى النفس فى أحسن صورة من اللفظ".
أى: ليس على رسولنا - أيها الناس - إلا تبليغ ما أمرناه بتبليغه إليكم وتوصيل ما كلفناه بتوصيله لكم، وهو لم يقصر فى ذلك، ولم يأل جهدا فى نصحكم وإرشادكم فأطيعوه لتسعدوا. واعلموا أن الله - تعالى - يعلم ما تظهرون وما تخفون من خير أو شر، وسيجازيكم بما تستحقون يوم القيامة.
فالآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من ترغيب وترهيب، ومن تبشير وإنذار، وتصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه تبليغ ما كلفه الله بتبليغه إلى الناس، وليس عليه بعد ذلك هدايتهم أو ضلالهم، وإنما الله وحده هو الذى بيده ذلك، وهو الذى بيده حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم.
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بأنه لا يستوى عنده الخبيث والطيب فقال: { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ }.
والخبيث - كما يقول الراغب - ما يكره رداءه وخساسة محسوسا كان أم معقولا، وأصله الردئ الدخلة الجارى مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر:

سبكناه ونحسبه لجينافأبدى الكير على خبث الحديد

وذلك يتناول الباطل فى الاعتقاد، والكذب فى المقال، والقبيح فى الفعال.
والطيب: الشىء الحسن الذى أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة، ويتناول الاعتقاد الحق، والمقال الصدق، والعمل الصالح.
والمعنى: قل - يا محمد - للناس: إنه لا يستوى عند الله ولا عند العقلاه القبيح والحسن من كل شىء، لأن الشىء القبيح - فى ذاته أو فى سببه أو فى غير ذلك من أشكاله - بغيض إلى الله وإلى كل عاقل، وسكون مصيره إلى الهلاك والبوار.
أما الشىء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل، ومحمود العاقبة دنيا ودينا.
وقوله: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } زيادة فى التنفير من الشىء الخبيث، وحض على التمسك بما هو طيب.
أى: لا يستوى فى ميزان الله ولا فى ميزان العقلاء الخبيث والطيب، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر، براق الشكل، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل، ولا تؤثر فى نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا. فإنه سىء العاقبة، سريع الزوال، لذته تعقبها الحسرة، وشهوته تتلوها الندامة، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية، وطريقه المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء.
أما الفريق الطيب أو الشىء الطيب فهو محمود العاقبة، لذته الحلال يباركها الله، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم - مهما قل - سالكوه - هو الطريق الذى يوصل إلى كل خير وفلاح.
ولا شك أن العقل عندما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن فى الطيب سعادة الدنيا والآخرة.
وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها: "ما تمتع الأشرار بشىء إلا وتمتع به الأخيار، وزادوا عليهم رضا الله - عز وجل -".
والفاء فى قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } للإفصاح عن كلام مقدر، والتقدير:
إذا كان الأمر كما بينت لكم - أيها الناس - من أنه لا يستوى الخبيث والطيب. لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث، وتقبلوا على كل ما هو طيب، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنالون الفلاح والنجاح فى دنياكم وآخرتكم.
والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب فى الطاعات والتحذير من المعاصى.
قال الفخر الرازى: لما ذكر - سبحانه - هذه الترغيبات الكثيرة فى الطاعة، والتحذيرات من المعصية. أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }: أى: فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة.
وبعد هذا الحديث المستفيض عن الحلال والحرام فى شريعة الإِسلام اتجهت آيات السورة الكريمة إلى تربية المسلمين وإرشادهم إلى الآداب التى يجب أن يتمسكوا بها ونهيهم عن الأسئلة التى لا خير يرجى من وراء إثارتها.. فقال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ... }