التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ
١٢
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ
١٣
وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
١٤
أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
١٥

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما أصابك من أذى من هؤلاء المشركين الجاحدين المكذبين فقد سبقهم إلى هذا التكذيب والكفر والجحود "قوم نوح" - عليه السلام -، فإنهم قد قالوا فى حقه إنه مجنون، كما حكى عنهم ذلك فى قوله - تعالى -: { { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } }. وقوله: { أَصْحَابُ ٱلرَّسِّ } معطوف على ما قبله، والرس فى لغة العرب: البئر التى لم تبن بعد بالحجارة، وقيل: هى البئر مطلقا.
وللمفسرين فى حقيقة أصحاب الرس أقوال: فمنهم من قال إنهم من بقايا قبيلة ثمود، بعث الله إليهم واحدا من أنبيائه، فكذبوه ورسوه فى تلك البئر، أى: ألقوا به فيها فأهلكهم - سبحانه - بسبب ذلك.
وقيل: هم الذين قتلوا حبيبا النجار عندما جاء يدعوهم إلى الدين الحق، وكانت تلك البئر بأنطاكية، وبعد قتلهم له ألقوه فيها. وقيل: هم قوم شعيب - عليه السلام -..
واختار ابن جرير -رحمه الله - أن أصحاب الرسل هم أصحاب الأخدود، الذين جاء الحديث عنهم فى سورة البروج.
والمراد بثمود: قوم صالح - عليه السلام - الذين كذبوه فأهلكهم الله - تعالى -.
والمراد بعاد: قوم هود - عليه السلام - الذين اغتروا بقوتهم، وكذبوا نبيهم، فأخذهم - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر.
{ وَفِرْعَوْنُ } هو الذى أرسل الله إليه موسى - عليه السلام - فكذبه وقال لقومه
{ { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } }. { وَإِخْوَانُ لُوطٍ } هم قومه الذين أتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها. قالوا: ووصفهم الله - تعالى - بأنهم إخوانه، لأنه كانت تربطه بهم رابطة المصاهرة حيث إن امرأته - عليه السلام - كانت منهم.
{ وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ } هم قوم شعيب - عليه السلام - كما قال - تعالى -:
{ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } }. والأيكة: اسم لمنطقة كانت مليئة بالأشجار، ومكانها - فى الغالب - بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة، ولعلها المنطقة التى تسمى بمعان.
وكان قوم شعيب يبعدون الأوثان، ويطففون فى المكيال فنهاهم شعيب عن ذلك، ولكنهم كذبوه فأهلكهم الله - تعالى -.
{ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } وهو تبع الحميرى اليمانى، وكان مؤمنا وقومه كفار، قالوا: وكان اسمه سعد أبو كرب، وقد أشار القرآن إلى قصتهم فى آيات أخرى منها قوله - تعالى -:
{ { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ.. } }. والتنوين فى قوله - تعالى -: { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ... } عوض عن المضاف إليه. أى: كل قوم من هؤلاء الأقوام السابقين كذبوا رسولهم الذى جاء لهدايتهم.
وقوله: { فَحَقَّ وَعِيدِ } بيان لما حل بهم بسبب تكذيبهم لرسلهم. أى: كل واحد من هؤلاء الأقوام كذبوا رسولهم، فكانت نتيجة ذلك أن وجب ونزل بهم وعيدى، وهو العذاب الذى توعدتهم به، كما قال - سبحانه -
{ { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } }. قال ابن كثير: قوله: { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ... } أى: كل من هذه الأمم، وهؤلاء القرون كذب رسوله، ومن كذب رسولا فكأنما كذب جميع الرسل.
{ فَحَقَّ وَعِيدِ } أى: فحق عليهم ما أوعدهم الله - تعالى - على التكذيب من العذاب والنكال، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك.
وبعد هذا العرض لمصارع المكذبين، عادت السورة إلى تقرير الحقيقة التى كفر بها الجاهلون والجاحدون، وهى أن البعث حق، فقال - تعالى -: { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والاستفهام للإِنكار والنفى، وقوله { عَيِينَا } من العى بمعنى العجز. يقال: عَيِىَ فلان بهذا الشئ، إذا عجز عنه، وانقطعت حيلته فيه، ولم يهتد إلى طريقة توصله إلى مقصوده منه.
واللبس: الخلط. يقال: لبس على فلان الأمر - من باب ضرب - إذا اشتبه واختلط عليه، ولم يستطع التمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ.
أى: أفعجزت قدرتنا عن خلق هؤلاء الكافرين وإيجادهم من العدم، حتى يتوهموا أننا عاجزون عن إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم؟.
كلا إننا لم نعجز عن شئ من ذلك لأن قدرتنا لا يعجزها شئ، ولكن هؤلاء الكافرين لانطماس بصائرهم، واستيلاء الشيطان عليهم، قد صاروا فى لبس وخلط من أمرهم، بدليل أنهم يقرون بأننا نحن الذين خلقناهم ولم يكونوا شيئا مذكورا، ومع ذلك فهم ينكرون قدرتنا على "الخلق الجديد" أى: على إعادتهم إلى الحاية الدنيا مرة أخرى بعد موتهم.
فقوله - تعالى -: { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أى: بل إن هؤلاء الكافرين فى خلط وشك وحيرة من أن يكون هناك خلق جديد أى خلق مستأنف لهم بعد موتهم، مع أنهم - لو كانوا يعقلون - لعلموا أن القادر على الخلق من العدم، قادر على إعادة هذا المخلوق من باب أولى، كما قال - سبحانه -:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.. } }. قال الآلوسى: وقوله: { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } عطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأن قيل: إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه، فلا وجه لإِنكارهم الثانى، بل هم فى خلط وشبهة فى خلق مستأنف..
وقال بعض العلماء ما ملخصه: فى الآية أسئلة ثلاثة: لم عرف الخلق الأول؟ ولم نكر اللبس؟ ولم نكر الخلق الجديد؟.
وللإِجابة على ذلك نقول: عرف الخلق الأول للتعميم والتهويل والتفخيم ومنه تعريف الذكور فى قوله
{ { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } }. وأما التنكير فأمره منقسم، فأحيانا يقصد به التفخيم، من حيث ما فيه من الإِبهام.. وهو المقصود هنا من تنكير لفظ { لبس }. كأنه قيل: بل هم فى لبس أى لبس.
وأحيانا يقصد به التقليل والتهوين لأمره، وهو المقصود هنا بقوله من { خَلْقٍ جَدِيدٍ } أى: أن هذا الخلق الجديد شئ هين بالنسبة إلى الخلق الأول، وإن كان كل شئ هين بالنسبة إلى قدرة الله - تعالى -.
ثم صورت السورة الكريمة بعد ذلك علم الله - تعالى - الشامل لكل شئ تصويرا يأخذ بالألباب، وبينت سكرات الموت وغمراته، وأحوال الإِنسان عند البعث.. بيانا رهيبا مؤثرا. قال - تعالى -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ... ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }.