التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
٢٣
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
٢٤
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ
٢٥
ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ
٢٦
قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بقرينه فى قوله - تعالى -: { وَقَالَ قَرِينُهُ... } الملك الموكل بكتابه ما يصدر عن الإِنسان فى حياته، وجاء به مفردا مع أن لكل إنسان قرينين لأن المراد به الجنس.
ويصح أن يكون المراد بقرينه هنا، شيطانه الذى أضله وأغواه..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: { وَقَالَ قَرِينُهُ... } أى: شيطانه المقيض له فى الدنيا، ففى الحديث:
"ما من أحد إلا وقد وكل به قرينة من الجن قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله - تعالى - أعاننى عليه، فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير" .
وقوله: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } إشارة إلى الشخص الكافر نفسه، أى: هذا ما عندى قد هيأته لجهنم..
وقال قتادة: قرينه: الملك الموكل بسوقه وبكتابة سيئاته، يقول مشيرا إلى ما فى صحيفته وما فيها من سيئات: هذا الذى فى صحيفته من سيئات مكتوب عندى، وحاضر للعرض. و "ما" نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد، أو موصولة والظرف صلتها، و "عتيد" خبر بعد خبر لإِسم الاشارة، أو خبر لمبتدأ محذوف..
ثم يقال بعد ذلك للملكين بالموكلين به، أو للسائق والشهيد: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أى: اقذفا فى جهنم باحتقار وغضب كل "كفار" أى: كل مبالغ فى الجحود والكفر "عنيد" أى: معاند للحق مع علمه بأنه حق..
يقال: عنَد فلان عن الحق - من باب - قعد فهو عانِد وعنيد وعُنُود، إذا ركب الخلاف والعصيان وأبى أن ينقاد للحق مع علمه بأنه حق، مأخوذ من العَنْدِ وهو عظم يعرض فى الحلق فيحول بين الطعام وبين دخوله إلى الجسم.
وقوله { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } صفات أخرى لذلك الكافر الملقى فى جهنم.
أى: مبالغ فى المنع لكل خير يجب فعله. وهو بعد ذلك كثير الاعتداء، وكثير الشك فيما هو حق وبر.
{ ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } فى العبادة والطاعة { فَأَلْقِيَاهُ } أيها الملكان { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } الذى يذله ويهينه.
والاسم الموصول مبتدأ يشبه الشرط فى العموم، ولذا دخلت الفاء فى خبره وهو قوله: { فَأَلْقِيَاهُ... }.
{ قَالَ قرِينُهُ } أى: شيطانه الذى كان يزين له السوء فى الدنيا.. والجملة مستأنفة لأنها جواب عما يزعمه الكافر يوم القيامة من أن قرينه هو الذى أغواه وحمله على الكفر..
أى: قال الشيطان فى رده على الكافر: يا ربنا إننى ما أطغيته، ولا أجبرته على الكفر والعصيان { وَلَـٰكِن } هو الذى { كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } دون أن أكرهه أنا على هذا الضلال أو الكفر.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } }. { قَالَ } أى: - الخالق - عز وجل { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } أى: لا تتنازعوا عندى فى هذا الموقف، فإن التنازع لا فائدة فيه.
{ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أى: والحال أنى قد حذرتكم على ألسنة رسلى من سوء عاقبة الكفر، والآن لا مجال لهذا الاعتذار أو التخاصم.
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } أى: لا خلف لوعدى، ولا معقب لحكمى، بل هو كائن لا محالة، وهو أنى:
{ { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } }. { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أى: وما أنا من شأنى أن أعذب أحدا بدون ذنب جناه. وإنما أنا من شأنى أن أجازى الذين أساؤوا بما عملوا، وأجازى الذين أحسنوا بالحسنى، وأعفو عن كثير من ذنوب عبادى سوى الشرك بى.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى: اذكر - أيها العاقل - لتتعظ وتعتبر - يوم نقول لجهنم هل امتلأت من كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب، واكتفيت من كل من جعل معى إلها آخر..؟
فترد جهنم وتقول: يا إلهى { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى: يا إلهى هل بقى شئ منى لم يمتلئ من هؤلاء الكافرين؟ أنت تعلم يا خالقى أنى قد امتلأت، ولم يبق منى موضع لقدم.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يخبر الله - تعالى - أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أنه سيملؤها من الجِنَّة والناس أجمعين، فهو - سبحانه - يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى فيها وهى تقول: { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى: هل بقى شئ تزيدونى؟..
هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث، فقد أخرج البخارى عن أنس بن مالك. عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يُلْقَى فى النار - الكفرة - وتقول: هل من مزيد، حتى يضع - سبحانه - فيها قدمه فتقول: قَطْ قَطْ - أى: حسبى حسبى -.." .
وعن ابن عباس قوله: { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى: وهل فِىَّ من مكان يزاد فِىَّ.
وعن عكرمة قوله: وتقول: { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وهل فىَّ مدخل واحد؟ قد امتلأت.
وقال الشوكانى: وهذا الكلام على طريق التخييل والتمثيل ولا سؤال ولا جواب. كذا قيل: والأَوْلَى أنه على طريقة التحقيق، ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع.
قال الواحدى: أراها الله تصديق قوله: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }. فلما امتلأت قال لها: { هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أى: قد امتلأت ولم يبق فى موضع لم يمتلئ. وقيل: إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة. أى: إنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها.. والمزيد إما مصدر كالمحيد. أو اسم مفعول كالمنيع، فالأولى بمعنى: له من زيادة. والثانى بمعنى هل من شئ تزيدونيه..
وكعادة القرآن فى المقارنة بين عاقبة الأشرار والأخيار، جاء بعد ذلك الحديث عن المتقين وحسن عاقبتهم فقال - تعالى -: { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ }.
وقوله: { وَأُزْلِفَتِ } من الإِزلاف بمعنى القرب، يقال: أزلفه إذا قربه، ومنه الزلفة والزلفى بمعنى القُرْبَة والمنزلة.. وهو معطوف على قوله - سبحانه -
{ { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } }. وقوله: { غَيْرَ بَعِيدٍ } صفة لموصوف مذكر محذوف، ولذا قال غير بعيد ولم يقل غير بعيدة. أى: وأدنيت وقربت الجنة للمتقين فى مكان غير بعيد منهم، فصاروا يرونها ويشاهدون ما فيها من خيرات لا يحيط بها الوصف.
وفائدة قوله: { غَيْرَ بَعِيدٍ } بعد قوله { وَأُزْلِفَتِ } للتأكيد والتقرير، كقولك: فلان قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل..
قال الجمل ما ملخصه: فإن قيل: ما وجه التقريب مع أن الجنة مكان، والأمكنة يقرب منها وهى لا تقرب؟.
فالجواب: أن الجنة لا تنقل.. لكن الله - تعالى لا يطوى المسافة التى بين المؤمن والجنة - حتى لكأنها حاضرة أمامه - وذلك من باب التكريم والتشريف للمؤمن.
واسم الإِشارة فى قوله: { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } يعود إلى الجنة التى قربت لهم.. والجملة على تقدير القول، أى: قربت الجنة ممن هم أهلها، ويقال لهم عند دخولها: هذا الذى ترونه من نعيم، هو ما سبق أن وعد الله - تعالى - به كل { أَوَّابٍ } أى رجاع إليه بالتوبة { حَفِيظٍ } أى: حافظ لحدوده وأوامره ونواهيه بحيث لا يتجاوزها، وإنما ينفذها، ويقف عندها.
{ مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ.. } أى: من خاف مقام ربه دون أن يراه أو يطلع عليه، والجملة بدل أو عطف بيان من قوله: { لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } وقوله: { بِٱلْغَيْبِ } متعلق بمحذوف حال من الرحمن، أى: خَشِيَه وهو غائب عنه لا يراه ولا يشاهده.
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أى: وجاء ربه يوم القيامة بقلب راجع إليه، مخلص فى طاعته، مقبل على عبادته..
هؤلاء الذين يفعلون ذلك فى دنياهم، يقال لهم يوم الحساب على سبيل التبشير والتكريم:
{ ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أى ادخلوا الجنة التى وعدكم الله إياها بسلام وأمان واطمئنان.
{ ذَلِكَ } اليوم وهو يوم الثواب والعطاء الجزيل من الله - تعالى - { يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } الذى لا انتهاء له، ولا موت بعده..
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أى: لهؤلاء المتقين ما يشاءون ويشتهون.. فى الجنة.
{ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أى: وعندنا - فضلا عن كل هذا النعيم الذى يرفلون فيه - المزيد منه، مما لم يخطر لهم على بال، ولم تره أعينهم قبل ذلك.
قال ابن كثير: وقوله: { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله - تعالى -:
{ { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } وقد تقدم فى صحيح مسلم عن صهيب بن سنان، أنها النظر إلى وجه الله الكريم.
ثم تحدثت السورة الكريمة فى أواخرها من مصارع المكذبين السابقين، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن الدواء الذى يزيل عن القلوب همومها، وعن أهوال يوم القيامة، فقال - تعالى -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ... مَن يَخَافُ وَعِيدِ }.