التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٤١
يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ
٤٢
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ
٤٣
يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
٤٤
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
٤٥

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

و { كَمْ } فى قوله - تعالى -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ... } خبرية بمعنى كثير، وهى منصوبة بما بعدها، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش فى زمن واحد، ومقداره مائة سنة - على الراجح -.
وقوله: { مِّن قَرْنٍ } تمييز لكم، وجملة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } صفة، والبطش: السطوة والأخذ بشدة. أى: واعلم - أيها الرسول الكريم - أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التى كذبت رسلها، كقوم نوح وعاد وثمود، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا، وما دام الأمر كما ذكرنا لك، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك، فنحن فى قدرتنا أن ندمرهم تدميرا.
والضمير فى قوله - تعالى -: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية. والتنقيب: السير فى الأرض، والطواف فيها. والبحث بين أرجائها، يقال: نقب فلان فى الأرض، إذا ذهب فيها وأصل النَّقْب: الخرق والدخول فى الشئ، ومنه قولهم: نقب فلان الجدار، إذا أحدث فيه خرقا.
والمراد به هنا: السير فى الأرض، والتفتيش فيها..
قال الآلوسى: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أى: ساروا فى الأرض وطوفوا فيها حذر الموت.. قال الشاعر:

نقبوا فى البلاد حذر الموت وجالوا فى الأرض كل مجال

وشاع التنقيب فى العرف بمعنى التنقير عن الشئ والبحث عن أحواله..
والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه، لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببيه، لأن تصرفهم فى البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم، وهى على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها، كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا فى البلاد..
والاستفهام فى قوله - سبحانه -: { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } للإِنكار والنفى، والمحيص: المعدل والمهرَب، يقال: حاص فلان عن الشئ يحيص حَيْصاً، ومَحِيصا، إذا عدل وحاد عنه، وحاول الهروب منه. أى: أن هؤلاء المكذبين السابقين، كانوا أشد من مشركى قريش قوة وأكثر جميعا، وكانوا أكثر ضربا فى الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا.
فعليكم - أيها المشركون - أن تعتبروا بهم، حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
فالمقصود بالآية الكريمة، تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإِهلاك للأمم المكذبة السابقة { لَذِكْرَىٰ } أى: لتذكرة وعبرة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى: لمن كان له قلب يعى ما يسمع، ويعقل ما يوجه إليه، ويعمل بمقتضى هذا التوجيه الحكيم. { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أى: فيما سقناه عبرة وعظة لمن كان له قلب يعى الحقائق، ولمن أصغى إلى ما يلقى إليه من إرشادات، وهو حاضر الذهن صادق العزم لتنفيذ ما جاءه من الحق..
قال صاحب الكشاف: { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى: قلب واع، لأن من لا يعى قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع: الإِصغاء. { وَهُوَ شَهِيدٌ } أى: حاضر بفطنته، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب.. أو هو مؤمن شاهد على صحته، وأنه وحى الله..
ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته ووحدانيته فقال: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }. واللغوب: التعب والنصب والإِعياء، مصدر لغب - كدخل - يقال لغب فلان لغوبا، إذا اشتد تعبه وضعفه.
أى: والله لقد خلقنا بقدرتنا السماوات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلى الله، فى ستة أوقات وما مسنا بسبب هذا الخلق العظيم نصب أو تعب أو إعياء.
فالمراد بالأيام مطلق الأوقات التى لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - وقيل: هذه الأيام من أيام الدنيا، وقيل: من أيام الآخرة..
وقال سعيد بن جبير: الله - تعالى - قادر على أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما فى لمحة ولحظة، ولكنه - سبحانه - خلقهن فى ستة أيام ليعلم عباده التثبت فى الأمور والتأنى فيها.
والمقصود بالآية الكريمة بيان كمال قدرة الله - تعالى -. والرد على من أنكر البعث والنشور. وعلى اليهود الذين زعموا أن الله - تعالى - خلق العالم فى ستة أيام ثم استراح فى اليوم السابع وهو يوم السبت.
والفاء فى قوله: { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } فصيحة. أى: إذا كان الحال كما بينا لك يا محمد، فاصبر على ما يقوله هؤلاء الضالون المكذبون من أقوال لا يؤيدها عقل أو نقل.
وقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } إرشاد له - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يعينه على الصبر.
أى: اصبر - أيها الرسول الكريم - على أقوال هؤلاء الكافرين، ونزه ربك - تعالى - عن كل ما لا يليق به، وتقرب إليه بالعبادات والطاعات { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } وهما وقتا الفجر والعصر.
وخصهما - سبحانه - بالذكر لفضلهما وشرفهما.
{ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } - أيضا - ونزهه عن كل ما لا يليق به، { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } أى: وفى أدبار وأعقاب الصلوات فأكثر من تسبيحه - عز وجل - وتقديسه.
ومن الأحاديث التى وردت فى فضل التسبيح بعد الصلوات المكتوبة، ما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة - أنه قال:
"جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلى، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين.
قال: فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"
.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } }. ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يلقى سمعه لما يخبره به - تعالى - من أهوال يوم القيامة فقال: { وَٱسْتَمِعْ... } والمستمع إليه محذوف للتهويل والتعظيم.. أى: واستمع - أيها الرسول الكريم - أو - أيها العاقل - لما سأخبرك به من أهوال يوم القيامة.
ثم بين - سبحانه - ذلك فقال: { يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ }.
أى: استمع استماع تنبه وتيقظ يوم يناد المناد وهو إسرافيل - عليه السلام - من مكان قريب بحيث يسمع نداءه الناس جميعا..
قال ابن كثير: قال قتادة: قال كعب الأحبار: يأمر الله ملكا أن ينادى على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
وفى ورود الأمر بالاستماع مطلقا، ثم توضيحه بما بعده، تهويل وتعظيم للمخبر به، لما فى الإِبهام، ثم التفسير، من التهويل والتفخيم لشأن المحدث عنه.
وقوله: { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ } بدل من قوله: { يَوْمَ يُنَادِ }.
أى: يوم يسمعون صيحة البعث من القبور. والحشر للجزاء، سماعا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل، والمراد بهذه الصيحة: النفخة الثانية { ذَلِكَ } اليوم هو { يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من الأجداث كأنهم جراد منتشر.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } }. { { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } }. ثم بين - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته فقال: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ }. أى: إنا بقدرتنا وإرادتنا نحيى ونميت من نشاء إحياءه أو إماتته، وإلينا وحدنا مرجع العباد ومصيرهم، لا يشاركنا فى ذلك مشارك.
اذكر - أيضا - أيها العاقل { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً.. } أى يوم تتشقق الأرض عن من فى باطنها من مخلوقات، فيخرجون إلينا سراعا. كما قال - تعالى -:
{ { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } }. وقوله: { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أى: ذلك التشقق للأرض وما يترتب عليه من بعث وجمع وحشر، يسير وهين علينا، لأن قدرتنا لا يعجزها شئ.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها من التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن التحديد الدقيق لوظيفته، فقال - تعالى -: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }. أى: نحن - أيها الرسول الكريم - أعلم بما يقوله هؤلاء المشركون فى شأنك وفى شأن دعوتك، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقاب، فاصبر على أقوالهم، وبلغ رسالة ربك دون أن تخشى أحدا سواه.
وأنت لست بمسلط عليهم لتجبرهم على اتباعك، وتقهرهم على الدخول فى الإِسلام، وإنما وظيفتك التذكير بهذا القرآن لمن يخشى عذابى، ويخاف وعيدى.
كما قال - سبحانه -:
{ { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } }. وكما قال - تعالى -: { { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } }. وبعد فهذا تفسير محرر لسورة "ق" التى حفظها بعض الصحابة من فم النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال تكراره لها فى خطب الجمعة.
نسأل الله - تعالى - أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.