التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى -.
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أى: مستقرين فى جنات وبساتين فيها عيون عظيمة، لا يبلغ وصفها الواصفون.
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أى: هم منعمون فى الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه.
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } بمثابة التعليل لما قبله. أى: هم فى هذا الخير العميم من ربهم لأنهم، كانوا قبل ذلك - أى: فى الدنيا - محسنين لأعمالهم، ومؤدين لكل ما أمرهم به - سبحانه - بإتقان وإخلاص.
ثم بين - سبحانه - مظاهر إحسانهم فقال: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا، أما أكثره فكانوا يقضونه فى العبادة والطاعة.
والهجوع: النوم ليلا، وقيده بعضهم بالنوم القليل، إذ الهجعة هى النومة الخفيفة، تقول: أتيت فلانا بعد هجعة، أى بعد نومة قليلة.
عن الحسن قال: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
ثم مدحهم - سبحانه - بصفة أخرى فقال: { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } والأسحار جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل.
أى، وكانوا فى أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله - تعالى - يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب، ويلتمسون منه - تعالى - قبول توبتهم وغسل حوبتهم.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: وفى الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، ويستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم: يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره.
وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه - تعالى - لما بين أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع. قال { يَسْتَغْفِرُونَ } أى: من ذلك القدر من النوم القليل.
ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر .. للإِشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار.. فى وجوه الأسحار، ومنعهم من الإِعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار...
ثم مدحهم - سبحانه - للمرة الثالثة فقال: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }.
والسائل: هو من يسأل غيره العون والمساعدة. والمحروم: هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه، بسبب مصيبة نزلت به، أو فقر كان فيه.. أو ما يشبه ذلك.
قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى المراد من المحروم هنا. والصواب من القول فى ذلك عندى: أنه الذى قد حرم الرزق واحتاج، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله. وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة. وقد يكون بأنه لا سهم له فى الغنيمة لغيبته عن الواقعة.
أى: أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله - تعالى - واستغفارا لذنوبهم.. يوجبون على أنفسهم فى أموالهم حقا للسائل والمحروم، تقربا إلى الله - سبحانه - بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء.
فالمراد بالحق هنا: ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة.
قال الآلوسى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقال منذر بن سعيد: هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية. وفرض الزكاة بالمدينة. وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذى كان بالمدينة القدر المعروف اليوم.. والجمهور على الأول.
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين، قد مدحهم الله - تعالى - هذا المدح العظيم، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء.
ثم لفت - سبحانه - الأنظار إلى ما فى الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ }. أى: وفى الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة، تدل على وحدانية الله وقدرته، كصنوف النبات، والحيوانات، والمهاد، والجبال، والقفار، والأنهار، والبحار. وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله - عز وجل -.
ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية، قال - تعالى -: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }.
أى: وفى أنفسكم وذواتكم وخلقكم... أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار، فإن فى خلقكم من سلالة من طين، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر، ثم فى رعايتكم فى بطون أمهاتكم. ثم فى تدرجكم من حال إلى حال، ثم فى اختلاف ألسنتكم وألوانكم، ثم فى التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعظائكم. ثم فى تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم.
فى كل ذلك وغيره، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره، حيث هى مدحوّة كالبساط.. وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها، والماشين فى مناكبها.
وهى مجزأة: فمن سهل وجبل، وبر وبحر، وقطع متجاورات: من صلبة ورخوة، وطيبة وسبخة، وهى كالطروقة تلقح بألوان النبات.. وتسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض فى الأكل، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها.
فى كل ذلك آيات { لِّلْمُوقِنِينَ } أى: للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى.. فازدادوا إيمانا على إيمانهم.
{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } فى حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفى بواطنها وظواهرها، من عجائب الفطر. وبدائع الخلق، ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب، وما ركز فيها من العقول، وخصت به من أصناف المعانى، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف، وما فى تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الدالة على حكمة المدبر.. فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق، تراها فى قوله - تعالى -: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }.
أى: أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده - سبحانه - وهى تنزل إليكم من جهة السماء، عن طريق الأمطار التى تنزل على الأرض الجدباء. فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج.
كما قال - تعالى -:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } وقال - سبحانه -: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال القرطبى: قوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } الرزق هنا: ما ينزل من السماء من مطر ينبت به الزرع، ويحيى به الإِنسان.. أى: وفى السماء سبب رزقكم، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل.
وقال سفيان الثورى: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أى: عند الله فى السماء رزقكم.
وقوله: { وَمَا تُوعَدُونَ } أى: وفى السماء محددة ومقدرة أرزاقكم. وما توعدون به من ثواب أو عقاب، ومن خير أو شر، ومن بعث وجزاء.
و { وَمَا } فى محل رفع عطف على قوله { رِزْقُكُمْ } أى: وفى السماء رزقكم والذى توعدونه من ثواب على الطاعة، ومن عقاب على المعصية.
فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب، وأن يراقبه ويطيعه فى السر والعلن لأنه - سبحانه - هو صاحب الخلق والأمر.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بهذا القَسَم فقال: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }.
والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى ما سبق الإِخبار عنه من أمر البعث والحساب والجزاء والرزق.. وغير ذلك مما يدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه.
ولفظ "مثل" منصوب بنزع الخافض، و "ما" مزيدة للتأكيد أى: فوحق رب السماء والأرض، إن جميع ما ذكرناه لكم فى هذه السورة، أو فى هذا القرآن، حق ثابت لا مرية فيه، كمثل نطقكم الذى تنطقونه بألسنتكم دون أن تشكوا فى كونه قد صدر عنكم لا عن غيركم.
فالمقصود بالآية الكريمة، تأكيد صدق ما أخبر به الله - تعالى - عباده فى هذه السورة وغيرها، لأن نطقهم بألسنتهم حقيقة لا يجادل فيها مجادل، وكذلك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه، وما تلاه عليهم فى هذه السورة وغيرها، حق ثابت لا ريب فيه.
وهكذا نرى هذه الآيات قد بشرت المتقين بألوان من البشارات، ثم لفتت عقول الناس إلى ما فى الأرض وإلى ما فى أنفسهم وإلى ما فى السماء من عظات وعبر.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق، فقال - تعالى -: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ... }.