التفاسير

< >
عرض

كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
٥٢
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٥٣
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ
٥٤
وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٥٥
وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ
٥٩
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { كَذَلِكَ } خبر لمبتدأ محذوف. أى: الأمر كذلك، واسم الإِشارة مشار به إلى الكلام الذى سيتلوه، إذ أن ما بعده وهو قوله: { مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ } تفسير له. أى: الأمر - أيها الرسول الكريم - كما نخبرك، من أنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من رسول يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا، إلا قالوا له - كما قال قومك فى شأنك - هو - ساحر أو مجنون.
والمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من مشركى قريش، حيث بين له - سبحانه - أن الرسل السابقين قد كذبتهم أممهم، فصبروا حتى أتاهم نصره - سبحانه -.
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال: { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ }؟ والضمير المجرور يعود إلى القول المذكور، والاستفهام للتعجيب من أحوالهم. أى: أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم. أنت - أيها الرسول - ساحر أو مجنون؟
وقوله - سبحانه -: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال، لأنهم لم يجمعهم زمان واحد حتى يوصى بعضهم بعضا، وإنما الذى جمعهم تشابه القلوب، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان.
أى: أوصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا لأنهم لم يتلاقوا، وإنما تشابهت قلوبهم، فاتحدت ألسنتهم فى هذا القول المنكر.
ثم تسلية ثالثة نراها فى قوله - تعالى -: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أى: فأعرض عنهم وعن جدالهم، وسر فى طريقك الذى رسمه الحكيم الخبير لك.
{ فَمَآ أَنتَ } أيها الرسول الكريم - { بِمَلُومٍ } على الإِعراض عنهم، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم.
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أى: أعرض عن هؤلاء المشركين، وداوم على التذكير والتبشير والإِنذار مهما تقول المتقولون، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية، وآداب حكيمة.. ينفع المؤمنين، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين.
ثم بين - سبحانه - الوظيفة التى من أجلها أوجد الله - تعالى - الجن والإِنس فقال: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }.
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال منها: أن معناها: إنى ما أوجدت الجن والإِنس إلا وهم مهيئون لعبادتى وطاعتى. بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير، فمنهم من أطاع الرسل، وجرى ما مقتضى ما تقتضيه الفطرة، فآمن بالرسل، واتبع الحق والرشد، ففاز وسعد، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب.
ومنهم من يرى أن معناها: إنى ما خلقت الجن والإِنس إلا ليقروا لى بالعبودية طوعا أو كرها، لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } ومنهم من يرى معناها: إنى ما خلقت الجن والإِنس إلا ليعرفونى.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل: إن هذا خاص فيمن سبق فى علم الله أنه يعبده. فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص.. فالآية فى المؤمنين منهم.
وقال على - رضى الله عنه -: أى: وما خلقت الجن والإِنس إلا لآمرهم بعبادتى قال - تعالى -
{ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ } وقيل: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أى: إلا ليقروا لى بالعبادة طوعا أو كرها.
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا، من أن معنى الآية الكريمة، أن الله - تعالى - قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته، ولكن منهم من أطاعه - سبحانه -، ومنهم من عصاه. لاستحواذ الشيطان عليه.
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال: ومعنى الآية أنه - تعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب.
وفى الحديث القدسى: قال الله - عز وجل -
"يا ابن آدم، تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك..." .
وفى بعض الكتب الإِلهية. يقول الله - تعالى - "يابن آدم، خلقتك لعبادتى فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبنى تجدنى. فإن وجدتنى وجدت كل شىء، وإن فتك فاتك كل شىء، وأنا أحب إليك من كل شىء" .
ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن العالمين فقال: { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أى: ما أريد منهم منفعة أو رزقا كما يريد الناس بعضهم من بعض.. وما أريد منهم طعاما ولا شرابا، فأنا الذى أطِعم ولا أطَعم كما قال - سبحانه -: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } قال الآلوسى: والآية لبيان أن شأنه - تعالى - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك العبيد نفى أن يكون ملكه إياهم لذلك، فكانه - سبحانه - يقول: ما أريد أن أستعين بهم، كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى.
ثم بين - سبحانه - أنه هو صاحب القوة والرزق فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } أى: إن الله - تعالى - هو الرزاق لغيره دون أحد سواه، وهو - سبحانه - صاحب القوة التى لا تشبهها قوة، وهو المتين أى: الشديد القوة - أيضا - فهو صفة للرزاق، أو لقوله: { ذُو }، أو خبر مبتدأ محذوف. وهو مأخوذ من المتانة بمعنى القوة الفائقة.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الظالمين فقال: { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ }.
والذَّنُوب فى الأصل: الدلو العظيمة المملوءة ماء، ولا يقال لها ذنوب إذا كانت فارغة. وجمعها ذَنَائِب، كقلوص وقلائص، وكانوا يستسقون الماء فيقسمونه بينهم على الأنصباء. فيكون لهذا ذنوب، ولهذا ذنوب. فالمراد بالذنوب هنا: النصيب، والمعنى: فإن للذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم لغير الله، وبظلمهم لغيرهم، نصيبا من العذاب، مثل نصيب نظرائهم فى الظلم والكفر، فلا يستعجلون عذابى، فإنه نازل بهم فى الوقت الذى أريد.
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } أى: فهلاك للذين كفروا، هذا الهلاك سيكون فى اليوم الذى توعدتهم بالهلاك فيه، والذى هو نازل بهم بلا ريب أو شك، وبعد: فهذا تفسير لسورة "الذاريات"، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.