التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
٥
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ
٦
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالذاريات: الرياح التى تذرو الشىء، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه.
فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل، بمعنى فرَّق وبدّد. يقال: ذَرَت الرياح التراب تذروه ذَرْواً، وتَذْرِيه ذَرْياً - من بابى عدا ورمى - إذا طيرته وفرقته.
ومنه قوله - تعالى -:
{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ.. } }. أى: تنقله وتحركه من مكان إلى آخر.
والمفعول محذوف، و "ذروا" مصدر مؤكد، وناصبه لفظ الذاريات، أى: وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا، وتحركه تحريكا شديدا.
والمراد بالحاملات: السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة، فتسير بها من مكان إلى آخر.
والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى، وهو مفعول به.
أى: فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة، وللمياه الغزيرة، التى تنزل على الأرض اليابسة، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء.
وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ.. } وقوله - سبحانه -: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ.. } والمراد بالجاريات: السفن التى تجرى فى البحر، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد.
وقوله: { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف، أى: فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذا يسر وسهولة، إلى حيث يسيرها ربانها.
ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال. أى: فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر.
ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } الملائكة، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم.. على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة.
و { أَمْراً } مفعول به، للوصف الذى هو المقسمات، وهو مفرد أريد به الجمع، أى: المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته.
وهذا التفسير لتلك الألفاظ، قد ورد عن بعض الصحابة، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة -: لا تسألونى عن آية فى كتاب الله، ولا عن سنة رسول الله، إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين. ما معنى قوله - تعالى -: { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } قال: الريح. { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } قال: السحاب. { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } قال: السفن، { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } قال: الملائكة.
وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب، وعن ابن عباس.
ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح.
قال الإمام الرازى: هذه صفات أربع للرياح، فالذاريات: هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا. والحاملات: هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء.. والجاريات: هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها. والمقسمات: هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار.
ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق، لأنه ثابت عن بعض الصحابة، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده.
وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط. كقول بعضهم: الذاريات هن النساء، فإنهن يذرين الأولاد، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان.
قال الآلوسى: ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر.
وإن حملت على واحد وهو الرياح، فهى لترتيب الأفعال والصفات، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا، حتى تنعقد سحابا، فتحمله ثانيا، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره.
وقوله: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم. و "ما" موصولة والعائد محذوف، والوصف بمعنى المصدر. أى: وحق هذه الأشياء التى ذكرتها لكم إن الذى توعدونه من الجزاء والحساب والبعث.. لصدق لا يحوم حوله كذب أوشك.
ويجوز أن تكون "ما" مصدرية. أى: إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.
وقوله: { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } تأكيد وتقريرلما قبله. أى: وإن الجزاء على الأعمال لواقع وقوعا لا ريب فيه. فالمراد بالدين هنا: الجزاء، كما فى قوله - سبحانه -
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ.. } ومنه قولهم: "كما تدين تدان" أى: كما تعمل تجازى، ومعنى وقوعه: حصوله.
ثم أقسم - سبحانه - قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }.
والحبك: جمع حَبِيكة، كطريقة - وزنا ومعنى -، أو جمع حِبَاك - كمُثُل ومِثَال -، والحبيكة والحباك. الطريقة فى الرمل وما يشبهه. أى: وحق السماء ذات الطرق المتعددة، والتى لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم.
ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك: ذات الخَلْق الحسن المحكم.. أو ذات الزينة والجمال.
قال القرطبى: وفى الحبك أقوال: الأول: قال: ابن عباس: ذات الخلْق الحسن المستوى يقال، حبَك فلان الثوب يحبِكُه - بكسر الباء - إذا أجاد نسجه.
الثانى: ذات الزينة. الثالث: ذات النجوم، الرابع: ذات الطرائق. ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس: ذات الشدة....
وقوله: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم. وقوله: { يُؤْفَكُ عَنْهُ.. } من الأفْك - بفتح الهمزة وسكون الفاء - بمعنى الصرف للشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه.
والضمير فى "عنه" يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى القرآن الكريم.
فيكون المعنى: وحق السماء ذات الطرق المتعددة، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة.. إنكم - أيها المشركون - "لفى قول مختلف" أى: متناقض متخالف، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم أنه: أساطير الأولين، ومنكم من يقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنه ساحر أو مجنون.
والحق أنه يصرف عن الإِيمان بهذا القرآن الكريم الذى جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرفه الله - تعالى - عنه، بسبب إيثاره الغى على الرشد، والضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان.
والتعبير بقوله: { مَنْ أُفِكَ } للإِشعار بأن هذا الشقى الذى آثر الكفر على الإِيمان، قد صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا، ليس هناك ما هو أشد منه فى سوء العاقبة.
فهذا التعبير شبيه فى التهويل بقوله - تعالى -:
{ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } قال الجمل: { يُؤْفَكُ } يصرف { عَنْهُ } عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم. أى: عن الإِيمان به { مَنْ أُفِكَ } أى: من صرف عن الهداية فى علم الله - تعالى -.
وقيل: الضمير للقول المذكور، أى: يرتد، أى: يصرف عن هذا القول من صرف عنه فى علم الله - تعالى - وهم المؤمنون.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين فقال: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ }.
والخراصون: جمع خرَّاص، وأصل الخَرْص: الظن والتخمين، ومنه الخارص الذى يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر، والمراد به هنا: الكذب، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله - تعالى.
أى: لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - هؤلاء الكذابون، الذين قالوا فى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منزه عنه.. والذين هم { فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } أى: فى جهالة تغمرهم كما يغمر الماء الأرض. فهم ساهون وغافلون عن كل خير.
فالغمرة: ما يغمر الشىء ويستره ويغطيه، ومنه قولهم: نهر غَمْر، أى: يغمر من دخله.
والمراد: أنهم فى جهالة غامرة لقلوبهم. وفى غفلة تامة عما ينفعهم.
وهذا التعبير فيه ما فيه من تصوير ما هم عليه من جهالة وغفلة، حيث يصورهم - سبحانه - وكأن ذلك قد أحاط بهم وغمرهم حتى لكأنهم لا يحسون بشىء مما حولهم.
ثم بين - سبحانه - ما كانوا عليه من سوء أدب فقال: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ }.
و "أيان" بمعنى متى. أى: يسألون سؤال استهزاء واستخفاف فيقولون: متى يكون هذا البعث الذى تحدثنا عنه يا محمد، ومتى يوم الجزاء والحساب الذى تهددنا به؟
وهنا يأتيهم الجواب الذى يردعهم ويبين لهم سوء مصيرهم. فيقول - سبحانه -: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أى يقع هذا اليوم الذى تسألون عنه وهو يوم البعث والحساب والجزاء.. يوم تحرقون بالنار - أيها الكافرون -، وتعذبون فيها عذاب أليما.
و "يفتنون" مأخوذ من الفَتْنِ بمعنى الاختبار والامتحان، يقال: فتَنْتُ الذهب بالنار، إذا أذبته لتظهر جودته من غيرها. والمراد به هنا: الإحراق بالنار.
وعدى "يفتنون" بعلى، لتضمنه معنى يعرضون، أو على بمعنى فى.
وقوله: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ.. } مقول القول محذوف.
أى: هذا اليوم الذى يسألون عنه واقع يوم الجزاء.. يوم يقال لهم وهم يعرضون على النار: ذوقوا العذاب المعد لكم، أو ذوقوا سوء عاقبة كفركم.
{ هَـٰذَا } العذاب المهين، هو { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فى الدنيا، وتقولون - على سبيل الاستهزاء والإِنكار - للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه:
{ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أكدت بأقوى الأساليب وأحكمها، أن يوم البعث والجزاء والحساب حق، وأن المكذبين بذلك سيذوقون أشد العذاب.
وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترغيب بالترهيب أو العكس، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين بعد الحديث عن سوء مصير المكذبين فقال - سبحانه -: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي... }.