التفاسير

< >
عرض

وَٱلطُّورِ
١
وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ
٢
فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ
٣
وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ
٤
وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ
٥
وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ
٦
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ
٧
مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ
٨
يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً
٩
وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً
١٠
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
١٢
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
١٣
هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٤
أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
١٥
ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٦
-الطور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بالقسم خمسة أشياء هى من أعظم مخلوقاته، للدلالة على كمال قدرته، وبديع صنعته، وتفرد ألوهيته.. فقال - سبحانه -: { وَٱلطُّورِ } والمراد به جبل الطور، والمشار إليه فى قوله - تعالى -: { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ } قال القرطبى: والطور: اسم الجبل الذى كلم الله - تعالى - عليه موسى، أقسم الله به تشريفا وتكريما له، وتذكيرا لما فيه من الآيات.. وقيل: إن الطور اسم لكل جبل أنبت، ومالا ينبت فليس بطور.
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أى مكتوب متسق الكتابة، منتظم الحروف، مرتب المعانى، فالمراد بالكتاب: المكتوب. وبالمسطور: الذى سطرت حروفه وكلماته تسطيرا جميلا حسنا.
والأظهر أن المقصود به القرآن الكريم، لأن الله - تعالى - قد أقسم به كثيراً، ومن ذلك قوله - سبحانه -
{ حـمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } ) ( { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } وقيل المقصود به: جنس الكتب السماوية المنزلة. وقيل: صحائف الأعمال.
قال الألوسى: قوله: { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أى: مكتوب على وجه الانتظام، فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به على ما قال الفراء: الكتاب الذى تكتب فيه الأعمال، ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله، وقال الكلبى: هو التوراة. وقيل: القرآن الكريم وقيل: اللوح المحفوظ.
وقوله: فى { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } متعلق بمسطور. أى: مسطور فى رق. والرق - بالفتح - كل ما يكتب فيه من ألواح وغيرها. وأصله: الجلد الرقيق الذى يكتب عليه.
والمنشور: المبسوط، ومنه قوله - تعالى -
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } أى: أن هذا الكتاب المسطور، كائن فى صحائف مبسوطة ظاهرة لكل من ينظر إليها.
وقوله. { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } هو بيت فى السماء السابعة تطوف به الملائكة بأمر الله - تعالى -.
قال ابن كثير: ثبت فى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فى حديث الإِسراء والمعراج، بعد مجاوزته إلى السماء السابعة:
"ثم رفع بى إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله فى كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة" .
وقيل المراد بالبيت المعمور هنا: البيت الحرام، وسمى بذلك لأنه معمور بالحجاج والعمار، { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ }، أى: والسماء المرفوعة، وسميت سقفا لكونها بمثابة السقف للأرض كما قال - تعالى -: { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } أى: المملوء بالماء، يقال، سجر فلان الحوض إذا ملأه بالماء.
أو المسجور: بمعنى: المملوء بالنار من السَّجْر، وهو إيقاد النار فى التنور، ومنه قوله - تعالى -:
{ ... ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } والمراد بالبحر هنا: جنسه. قال ابن عباس: تملأ البحار كلها يوم القيامة بالنار، فيزاد بها فى نار جهنم.
وبهذا نرى أن الله - تعالى - قد أقسم بخمسة أشياء من مخلوقاته، للدلالة على وحدانيته، وعلى شمول قدرته، وعلى بديع صنعته.
وجواب هذا القسم قوله - سبحانه -: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أى: وحق هذه المخلوقات الضخمة البديعة، إن عذاب ربك لواقع وقوعا لا شك فيه على الكافرين يوم القيامة.
وقوله: { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } خبر ثان لإِن فى قوله: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أى: هو واقع دون أن يستطيع أحد أن يدفعه أو يرده.
عن جبير بن مطعم - رضى الله عنه - قال: قدمت المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأكلمه فى أسارى بدر، فجئت إليه وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب، فسمعته يقرأ { وَٱلطُّورِ } ألى { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } فكأنما صدع قلبى، فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم مقامى...
والظرف فى قوله: { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } متعلق بقوله { لَوَاقِعٌ } ومنصوب به، أى: إن هذا العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا شديدا، وتتحرك بمن فيها تحكرا تتداخل معه أجزاؤها.
فالمور. هو الحركة والاضطراب والدوران، والمجىء والذهاب، والتموج والتكفُّؤُ، يقال: مار الشىء مورا، إذا تحرك واضطرب.
{ وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } أى عذاب ربك واقع يوم تضطرب السماء بأهلها وتزول الجبال عن أماكنها، وتتطاير كالسحب، ثم تتفت كالرمال، ثم تصير كالصوف المنفوش.
قال - تعالى -:
{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وقال - سبحانه -: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } وقوله: { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أى: فهلاك وحسرة فى هذا اليوم للمكذبين به.
{ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها العاقل - فهلاك وحسرة فى هذا اليوم للمكذبين بالحق، الذين هم عاشوا حياتهم الدنيا يلهون ويلعبون دون أن يذكروا حسابا ولا ثوابا ولا عقابا.
وأصل الخوض: المشى فى الماء، ثم غلب استعماله فى الاندفاع فى كل باطل.
ثم بين - سبحانه - حالهم يوم القيامة فقال: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ }.
والدع: الدفع بعنف وشدة. يقال: دَعَّ فلان فلانا دَعَّا، إذا دفعه بجفوة وغلظة، ومنه قوله - تعالى -:
{ أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } أى: اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ، يوم يدفع هؤلاء المكذبون إلى النار دفعا قويا. لا رحمة معه، ولا شفقة فيه، ثم يقال لهم بعد هذا الطرد الشديد: هذه هى النار التى كنتم بها تكذبون فى الدنيا، ادخلوها فبئس مئوى المتكبرين.
ثم يقال لهم - أيضا - على سبيل التوبيخ والزجر: { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا } أى أفسحر هذا الذى ترونه من العذاب كما كنتم تزعمونه فى الدنيا؟
{ أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } أى: أم أنتم عمى عن مشاهدة العذاب المعد لكم فلا تبصرونه؟ لا، إن هذا العذاب ليس سحرا، ولستم أنتم بمحجوبين عن رؤيته، بل هو أمام أعينكم، ومهيأ لاستقبالكم، وهذه النار تناديكم، وملائكتنا تقول لكم:
{ ٱصْلَوْهَا } أى: ادخلوها، وقاسوا حرها { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } أى: ادخلوها داخرين فاصبروا على سعيرها أو لا تصبروا، فهى مأواكم لا محالة.
{ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } الأمران، الصبر وعدمه، لأن كليهما لا فائدة لكم من روائه.
فقوله: { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف. أى: الأمران سواء بالنسبة لكم.
{ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ } فى هذا اليوم عاقبة، { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى: فى الدنيا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }؟
قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعة فى العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذى هو الجزاء، ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.
وكعادة القرآن الكريم فى المقارنة بين سوء عاقبة المكذبين، وحسن عاقبة المؤمنين، جاء الحديث عن المتقين، بعد الحديث عن الكافرين، فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ... }.