التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
١٧
فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
١٨
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٩
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٢٠
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
٢١
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢٢
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
٢٣
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٥
قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ
٢٦
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ
٢٧
إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ
٢٨
-الطور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه.
{ فِي جَنَّاتٍ } عظيمة وفى { نَعِيمٍ } دائم لا ينقطع. { فَاكِهِينَ } أى: متلذذين متنعمين بما يحيط بهم من خيرات، مأخوذ من الفَكاهة - بفتح الفاء - وهى طيب العيش مع النشاط، يقال: فكه الرجل فكَها، وفكاهة فهو فكِه وفاكه. إذا طاب عيشه، وزاد سروره، وعظم نشاطه، وسميت الفاكهة بهذا الاسم لتلذذ الإِنسان بها.
{ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } أى متلذذين بسبب ما آتاهم ربهم من جنات عظيمة، ووقاهم - سبحانه - بفضله ورحمته العذاب الذى يؤلمهم.
ويقال لهم فضلا عن ذلك على سبيل التكريم: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً } أى: كلوا أكلا مريئا، واشربوا شربا هنيئا. والهنىء من المأكول والمشروب: مالا يلحقه تعب أو سوء عاقبة.
وقوله: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } منصوب على الحال من فاعل { كُلُواْ } أو من الضمير المستكن فى قوله { جَنَّاتٍ }.
أى: هم فى جنات عظيمة، حالة كونهم متكئين فيها على سرر موضوعة على صفوف منتظمة، وعلى خطوط مستوية، والسُّررُ: جمع سرير وهو ما يجلس عليه الإِنسان للراحة.
وقوله: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى يتلذذون بها.
أى: وفضلا عن كل ذلك، فقد زوجناهم بنساء جميلات.
وبذلك نرى أن هؤلاء المتقين، قد أكرمهم الله - تعالى - بكل أنواع النعيم، من مسكن طيب، ومأكل كريم، ومشرب هنىء، وأزواج مطهرات من كل سوء.
ثم بين - سبحانه - أنواعا أخرى من تكريمه - تعالى - لهم، فقال: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }.
والأية الكريمة بيان لحال طائفة من أهل الجنة - وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملا منهم فى الإِيمان - إثر بيان حال المتقين بصفة عامة.
والاسم الموصول مبتدأ، وخبره جملة { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }. والمراد بالذرية هنا: ما يشمل الآباء والأبناء وقوله: { وَٱتَّبَعَتْهُمْ } معطوف على { آمَنُواْ }. وقوله { بِإِيمَانٍ } متعلق بالاتباع، والباء للسببية أو بمعنى فى.
ومعنى: { أَلَتْنَاهُمْ } أنقصناهم. يقال: فلان أَلَتَ فلانا حقه يألِتُه - من باب ضرب - إذا بخسه حقه.
والمعنى: والذين آمنوا بنا حق الإِيمان واتبعتهم ذريتهم فى هذا الإِيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، بأن جمعناهم معهم فى الجنة، وما نقصنا هؤلاء المتبوعين شيئا من ثواب أعمالهم، بسبب إلحاق ذريتهم بهم فى الدرجة، بل جمعنا بينهم فى الجنة. وساوينا بينهم فى العطاء - حتى ولو كان بعضهم أقل من بعض فى الأعمال - فضلا منا وكرما.
قال الإِمام ابن كثير: يخبر - تعالى - عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم فى الإِيمان، يلحقهم بآبائهم فى المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته. للتساوى بينه وبين ذاك. ولهذا قال: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }.
عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته، وإن كانوا دونه فى العمل، لتقر بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية.
وفى رواية أخرى عنه قال - عندما سئل عن هذه الآية -: هم ذرية المؤمنين يموتون على الإِيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التى عملوها شيئا.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى تنكير الإِيمان؟ قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة، ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الدانى المحل، كأنه قال: بشىء من الإِيمان، لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم.
قال الجمل: والذرية هنا تصدق على الآباء والأبناء، فإن المؤمن إذا كان عمله الصالح أكثر ألحق به من هو دونه فى العمل أبا كان أو ابنا، وهذا منقول عن ابن عباس وغيره.
وعن ابن عباس - أيضا - يرفعه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده، فيقال: إنهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: يارب إنى عملت لى ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به" .
وقوله: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أى: كل إنسان مرهون بعمله عند الله - تعالى - فإن كان عمله صالحا سعد وفاز، وأطلق نفسه من كل ما يسوؤها ويحزنها، وإن كان غير ذلك جوزى على حسب عمله وسعيه.
والتعبير بقوله { رَهَينٌ } للإِشعار بأن كل إنسان مرتهن بعمله، حتى لكأن العمل بمنزلة الدَّيْن، وأن الإِنسان لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد أدائه.
ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من مظاهر فضله على عباده المؤمنين فقال: { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ }. أى: وأمددنا هؤلاء المؤمنين - على سبيل الزيادة عما عندهم بفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وبلحم لذيذ تشتهيه نفوسهم.
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أى: يتجاذبون على سبيل المداعبة، ويتعاطون على سبيل التكريم، الأوانى المملوءة بالخمر التى هى لذة للشاربين.
{ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أى: لا يصدر منهم فى أعقاب شربهم لتلك الخمر، ما جرت به العادة فى أعقاب شرب خمر الدنيا، من أن الشارب لها يصدر منه كلام ساقط لا خير فيه، ويأتى من الأقوال والأفعال ما يعاقب عليه. ويرتكب الإِثم بسببه.
قال صاحب الكشاف: { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } أى: فى شربها { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أى: لا يتكلمون فى أثناء الشرب بسقط الحديث، ومالا طائل تحته، كفعل المتنادمين فى الدنيا على الشراب فى سفههم وعربدتهم، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أى: ينسب إلى الإِثم لو فعله فى دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش، وإنما يتكلمون بالحكم وبالكلام الحسن متلذذين بذلك، لأن عقولهم ثابتة غير زائلة وهم حكماء علماء.
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أى: ويطوف عليهم بتلك الكئوس المليئة بالخمر، غلمان لهم، لكى يكونوا فى خدمتهم.
{ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أى: كأن هؤلاء الغلمان فى صفائهم ونقائهم، لؤلؤ مصون ومحفوظ فى صدفه لم تنله الأيدى.
يقال: كَنَنْتُ الشىء كَنًّا وكُنُوناً، إذا جعلته فى كِنِّ، وسترته عن الأعين.
ثم حكى - سبحانه - تساؤلهم وهم فى الجنة، فقال: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أى: وأقبل بعضهم على بعض وهم فى الجنة، يسأل أحدهم الآخر عن أحواله وعن أعماله، وعن حسن عاقبته.
{ قَالُوۤاْ } أى: قال كل مسئول لسائله: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أى: إنا كنا فى الدنيا ونحن نعيش بين أهلنا خائفين من أهوال يوم القيامة، وكنا نقدم العمل الصالح الذى نرجو أن ننال بسببه رضا ربنا: فقبل - تعالى - بفضله منا هذا العمل { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } أى فتكرم علينا بمغفرته ورضوانه.
{ وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أى: وأنقذنا من عذاب النار التى تنفذ بحرها وسعيرها، إلى العظام والمسام، نفاذ الريح الحارة إلى الأجساد، فتؤثر فيها تأثير السم فى البدن.
قال صاحب الكشاف: والسموم: الريح الحارة التى تدخل المسام، فسميت بها نار جهنم، لأنها بهذه الصفة.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ.. } أى: إنا كنا من قبل فى الدنيا ندعوه أن يجنبنا هذا العذاب كما كنا - أيضا - نخلص له العبادة والطاعة.
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } أى: هو المحسن على عباده، الرحيم بهم.
فالبر - بفتح الباء - مشتق من البِرِّ - بكسرها -، بمعنى المحسن، يقال: بر فلان فى يمينه، إذا صدق فيها، وأحسن أداءها.
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة، قد بشرت المتقين ببشارات متعددة، وذكرت نعما متعددة أنعم بها - سبحانه - عليهم.
ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن الكافرين، فأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يمضى فى طريقه دون أن يهتم بأكاذيبهم، وحكت جانبا من هذه الأكاذيب التى قالوها فى حقه - صلى الله عليه وسلم - ولقتنه الجواب المزهق لها.. فقال - تعالى -: { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ... }.