التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
١١
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
١٢
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
١٣
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ
١٤
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
-النجم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتح الله - تعالى - هذه السورة بهذا القسم العظيم، للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وللرد على أولئك المشركين الجاهلين، الذين زعموا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد اختلق القرآن الكريم.
والنجم: هو الكوكب الذى يبدو للناظرين، لامعا فى جو السماء ليلا.
والمراد به هنا: جنسه، أى: ما يشمل كل نجم بازغ فى السماء، فأل فيه للجنس.
وقيل: أل فيه للعهد والمراد به نجم مخصوص هو: الشعرى، وهو نجم كان معروفا عند العرب. وقد جاء الحديث عنه فى آخر السورة، فى قوله - تعالى -: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } قالوا: وكانت قبيلة خزاعة تعبده.
وقيل المراد به: الثريا، فإنه من النجوم المشهورة عند العرب.
وقيل: المراد به هنا: المقدار النازل من القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمعه نجوم، وقد فسره بعضهم بذلك فى قوله - تعالى -:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } ومعنى "هوى": سقط وغرب. يقال هو الشىء يهوى - بكسر الواو - - هويا - بضم الهاء وفتحها - إذا سقط من أعلى إلى أسفل..
قال الآلوسى: وأظهر الأقوال، القول بأن المراد بالنجم، جنس النجم المعروف، فإن اصله اسم جنس لكل كوكب. وعلى القول بالتعيين، فالأظهر القول بأنه الثريا ووراء هذين القولين، القول بأن المراد به: المقدار النازل من القرآن...
وقوله - سبحانه -: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ }. جواب القسم. و "ما" نافية. و "ضل" من الضلال، والمراد به هنا: عدم الاهتداء إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم.
و "غوى" من الغى، وهو الجهل الناشىء من اعتقاد فاسد، وهو ضد الرشد..
و "الهوى" الميل مع شهوات النفس، دون التقيد بما يقتضيه الحق، أو العقل السليم.
والمعنى: وحق النجم الذى ترونه بأعينكم - أيها المشركون - عند غروبه وأفوله، وعند رجمنا به للشياطين.. إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسلناه إليكم -
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ما ضل عن طريق الحق فى أقواله وأفعاله، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم، ومن قول حيكم، ومن توجيه سديد.
وقد أقسم - سبحانه - بالنجم عند غروبه، للإِشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإِرادة الله - تعالى - وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول، إذا ما أراد الله - تعالى - له ذلك، ولا يصلح أن يكون إلها، لأنه خاضع لإِرادة خالقه.
ولقد حكى - سبحانه - عن نبيه إبراهيم أنه حين
{ جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } قال بعض العلماء: والوجه أن يكون قوله: { إِذَا هَوَىٰ } بدل اشتمال من النجم، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه، ومن أعظم أحواله حال هويّه وسقوطه، ويكون "إذا" اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية، فى محل جر بحرف القسم...
وقال - سبحانه -: { صَاحِبُكُمْ } للإِشارة إلى ملازمته - صلى الله عليه وسلم - لهم، طوال أربعين سنة قبل البعثة، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق، والأمانة، والعقل الراجح، والقول السديد.. وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له، ومطلعين على سلوكه بينهم، فقولهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون.. هو نوع من كذبهم البين، وجهلهم المطبق..
وقوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } استئناف بيانى مؤكد لما قبله.
والضمير "هو" يعود إلى المنطوق به، المفهوم من قوله - تعالى -: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ }. أى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يصدر نطقه فيما يأتيكم به عن هوى نفسه ورأيه، وإنما الذى ينطق به، هو وحى من الله - تعالى - أوحاه إليه على سبيل الحقيقة التى لا يحوم حولها شك أو ريب.
ومتعلق "يوحى" محذوف للعلم به. أى: ما هذا الذى ينطق به إلا وحى أوحاه - سبحانه - إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإِمام ابن كثير: قوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } أى: إنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.. فعن عبد الله بن عمرو قال:
"كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتنى قريش فقالوا: إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم فى الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك له، فقال: اكتب فوالذى نفسى بيده، ما خرج منى إلا الحق" .
وعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا أقول إلا حقا فقال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: إنى لا أقول إلا حقا" .
وقال صاحب الكشاف: ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، ويجاب بأن الله - تعالى - إذا سوغ لهم الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من صفات جبريل - عليه السلام - الذى ينزل بالقرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }.
أى: علَّمَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ملك من ملائكتنا الكرام، وهو جبريل - عليه السلام - الذى أعطيناه قوة شديدة، استطاع بها أن ينفذ ما كلفناه بتنفيذه.
والضمير المنصوب فى "علمه" هو المفعول الأول، والثانى محذوف. أى: القرآن، لأن علَّم تتعدى إلى مفعولين.
وقوله: { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } صفة لموصوف محذوف. أى: ملك شديد القوى.
قالوا: وقد بلغ من شدة قوته، أنه اقتلع قرى قوم لوط - عليه السلام - ثم رفعها إلى السماء، ثم قلبها. بأن جعل أعلاها أسفلها..
وقوله - تعالى -: { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } صفة أخرى من صفات جبريل - عليه السلام - والمرة - بكسر الميم - تطلق على قوة الذات، وحصافة العقل ورجاحته، مأخوذ من أمررت الحبل، إذا أحكمت فتله..
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ... } وقوله: { فَٱسْتَوَىٰ } أى: فاستقام على صورة ذاته الحقيقية، دون الصورة الآدمية التى كان ينزل بها على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
{ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أى: وهو - أى جبريل - بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر إليها { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أى: ثم قرب جبريل - عليه السلام - من النبى - صلى الله عليه وسلم - { فَتَدَلَّىٰ } أى: فانخفض من أعلى إلى أسفل..
وأصل التدلى: أن ينزل الشىء من طبقته إلى ما تحتها، حتى لكأنه معلق فى الهواء، ومنه قولهم: تدلت الثمرة إذا صارت معلقة فى الهواء من أعلى إلى أسفل..
ثم صور - سبحانه - شدة قرب جبريل من النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } والقاب: المقدار المعين: وقيل: هو ما بين وتر القوس ومقبضها..
والقوس: آلة معروفة عند العرب، يشد بها وتر من جلد، وتستعمل فى الرمى بالسهام.
وكان من عادة العرب فى الجاهلية، أنهم إذا تحالفوا، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر، حتى لكأنهما قاب واحد، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل...
والمعنى: أن جبريل - عليه السلام - بعد أن كان بالجهة العليا من السماء، ثم قرب من النبى - صلى الله عليه وسلم -، ثم زاد فى القرب، حتى كان على مقدار مسافة قوسين منه - صلى الله عليه وسلم - أو أقرب من ذلك.
قال صاحب الكشاف: قوله: { قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين، والقاب والقيب، والقاد والقيد، المقدار.. وقد جاء التقدير بالقوس، والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة والشبر... ومنه الحديث الشريف: "لقاب قوس أحدكم من الجنة، وموضع قده، خير من الدنيا وما فيها" والقد السوط...
فإن قلت: كيف تقدير قوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ }، قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات...
و "أو" فى قوله: { أَوْ أَدْنَىٰ } للشك، ولكن هذا الشك من جهة العباد، أى: أن الرائى إذا رأى هذا الوضع قال: هو قاب قوسين أو أقرب من ذلك، ويصح أن تكون بمعنى "بل".
قال الجمل: قوله: { أَوْ أَدْنَىٰ } هذه الآية كقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) لأن المعنى: فكان - جبريل - بأحد هذين المقدارين فى رأى الرائى. أى: لتقارب ما بينهما يشك الرائى فى ذلك.
وأدنى: أفعل تفضيل. والمفضل عليه محذوف. أى: أو أدنى من قاب قوسين.
ويصح أن تكون بمعنى بل، أى: بل هو أدنى...
وقوله: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } أى: فأوحى جبريل - عليه السلام -إلى عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى من قرآن كريم، ومن هدى حكيم.
فالضمير فى قوله: { فَأَوْحَىٰ } أى: جبريل، لأن الحديث فى شأنه وإيحاؤه إنما هو بأمر الله - تعالى - ومشيئته، ويرى بعضهم أنه يعود إلى الله - تعالى -.
قال الآلوسى: قوله: { فَأَوْحَىٰ } أى: جبريل { إِلَىٰ عَبْدِهِ } أى: عبد الله، وهو النبى - صلى الله عليه وسلم -، والإضمار - ولم يجر له - تعالى - ذكر، لكونه فى غاية الظهور، ومثله كثير فى الكلام، ومنه:
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ.. } { مَآ أَوْحَىٰ } أى: الذى أوحاه، والضمير المستتر لجبريل - أيضا -.
وقيل: الضمير المستتر لله - تعالى -. أى: أوحى جبريل إلى عبد الله، ما أوحاه الله إلى جبريل.
والأول مروى عن الحسن، وهو الأحسن.
وقيل: ضمير أوحى الأول والثانى لله - تعالى - والمراد بالعبد جبريل - عليه السلام - وهو كما ترى...
وأبهم - سبحانه - ما أوحاه، لتفخيم شأنه، وإعلاء قدره، حتى لكأنه لا تحيط به عبارة، ولا يحده الوصف، وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى -:
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ.. } وعبر - سبحانه - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعبده، وأضافه إليه، للتشريف والتكريم، ولبيان أنه عبد من عباده - تعالى - الذين اصطفاهم لحمل رسالته، وتبليغ ما أوحاه إليه.
وقوله: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } رد على المشركين، وتكذيب لهم، فيما زعموه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتلق الوحى عن جبريل، ولم يشاهده.
واللام فى قوله { ٱلْفُؤَادُ } عوض عن المضاف إليه، والفؤاد: العقل أو القلب، ومنه قوله - تعالى -:
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِه.. } وقراءة الجمهور { كَذَبَ } بفتح الذال مع التخفيف، وقرأ ابن عامر بفتحها مع التشديد، و "ما" موصولة، والعائد محذوف.
أى: ما كذب فؤاد النبى - صلى الله عليه وسلم - وما أنكر، الذى رآه ببصره من صورة جبريل - عليه السلام - لأنه لم يكن يجهله، بل كان معروفا لديه، وصاحب الوحى إليه، فهو - صلى الله عليه وسلم - عرفه بقبله، وتأكدت هذه المعرفة برؤيته له بعينيه.
فالكذب هنا: بمعنى الإِنكار والتردد و الشك فى صحة ما يراه.
قال صاحب الكشاف قوله: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } أى: ما كذب فؤاد النبى - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل - عليه السلام -.
أى: ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، ولو قال ذلك - على سبيل الفرض - لكان كاذبا لأنه عرفه، يعنى أنه رآه بعينه، وعرفه بقلبه، ولم يشك فى أن ما رآه حق.
وقرىء: { مَا كَذَّبَ } - بالتشديد -، أى: صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته.
ثم وبخ - سبحانه - المشركين على تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبرهم عنه من شئون الوحى، فقال: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ }.
والمماراة: المجادلة والملاحاة بالباطل. يقال: مارَى فلان فلانا مماراة ومِرَاء، إذا جادله، مأخوذ من مَرَى الناقة يَمْريها. إذا مسح ضرعها ليستدر لبنها، ويأخذه كاملا، فشبه الجدال بذلك، لأن كل واحد من المتجادلين يَمرِّى ما عند صاحبه، أى: يسعى لاستخراج كل ما عنده، حتى يقيم الحجة عليه.
وعدى الفعل بعلى لتضمنه معنى المغالبة.
أى: أفتجادلون نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما رآه بعينيه، وتجادلونه فى شىء هو تحقق منه بعقله وبصره،وهو ملاقاته ورؤيته لأمين وحينا جبريل - عليه السلام -؟ إن مجادلتكم له فى ذلك، هو من قبيل التعنت الواضح، والجهل الفاضح، لأنكم كذبتموه وجادلتموه فى شىء هو قد رآه وتحقق منه، وأنتم تعلمون أنه صادق أمين.
فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم وتجهيلهم على جدالهم بالباطل.
هذا وقد ذكر العلماء، أن هذه الآيات، تشير إلى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها، فقد كان جبريل يأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صورة آدمى، فسأله أن يريه نفسه على صورته التى خلق عليها، فأراه نفسه مرتين: مرة فى الأرض وهى التى تشير إليها هذا الآيات، ومرة فى السماء، وهى التى تشير إليها الآيات التالية.
وقد توسع الإِمام ابن كثير فى ذكر الأحاديث التى وردت فى ذلك فقال ما ملخصه:
عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير جبريل فى صورته إلى مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه فى صورته، فسد الأفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد...
وقوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ.. } إشارة إلى المرة الثانية التى رأى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل على هيئته التى خلقه الله - تعالى - عليها، وكان ذلك فى ليلة الإِسراء والمعراج. أى: والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلق عليها، حالة كونه نازلا من السماء نزلة أخرى.
وقد جاء الإِخبار عن هذه الرؤية بصيغة مؤكدة بلام القسم وبقد.. للرد على المشركين الذين أنكروا ذلك، فكأنه - سبحانه - يقول لهم: لئن كنتم قد أنكرتم هذه الرؤية فى الأرض، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره فى الأرض فقط، بل رآه رؤية أعظم من ذلك، وهى رؤيته له فى السماء، حين كان مصاحبا له فى رحلته ليلة الإِسراء والمعراج.
قال الآلوسى: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أى: رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها { نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أى: مرة أخرى، وهى فعلة من النزول، أقيمت مقام المرة، ونصبت نصبها على الظرفية، لأن أصل المرة مصدر مر يمر، ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه. ولم يقل مرة بدل نزلة، ليفيد أن الرؤية فى هذه المرة، كانت بنزول ودنو، كالرؤية فى المرة الأولى، الدال عليها ما مر...
والمراد من الجملة القسمية، نفى الريبة والشك عن المرة الأخيرة، وكانت ليلة الإِسراء.
وقوله: { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } بيان للمكان الذى تمت عنده الرؤية الثانية.
والسدرة فى الأصل: تطلق على شجرة النَّبِق، وهو ثمر معروف فى بلاد العرب.
والمنتهى: اسم مكان، أو مصدر ميمى بمعنى الانتهاء. وإضافة السدرة إليه، من باب إضافة الشىء إلى مكانه، كما فى قولهم: أشجار البستان. أو من إضافة المحل إلى الحال، كما فى قولك: كتاب الفقه أو النحو..
وسمى هذا المكان بسدرة المنتهى، لانتهاء علوم الخلائق عنده، وما وراءه لا يعلمه إلا الله - تعالى -.
أخرج الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السابعة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها. وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها.
ثم بين - سبحانه - ما يدل على شرف هذا المكان فقال: { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }.
أى: عند سدرة المنتهى، جنة المأوى. أى: الجنة التى تأوى وتسكن إليها أرواح المؤمنين الصادقين، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.
ثم نوه - سبحانه - بما يحيط بذلك المكان من جلال وجمال لا تحيط العبارة بوصفه فقال: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }.
والظرف "إذ". فى موضع الحال من "سدرة المنتهى"، لقصد الإِشادة بما أحاط بذلك المكان من شرف وبهاء.. أو هو متعلق بقوله: { رَآهُ }.
أى: ولقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى، عند ذلك المكان الجليل المسمى بسدرة المنتهى، حالة كون هذا المكان ينزل به ما ينزل، ويغشاه ما يغشاه من الفيوضات الربانية، والأنوار القدسية، والخيرات التى لا يحيط بها الوصف..
فهذا الإِبهام فى قوله { مَا يَغْشَىٰ } المقصود به التهويل والتعظيم والتكثير، لما يغشى هذا المكان من خيرات وبركات..
وقوله - تعالى - { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } بيان لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من ثبات واطمئنان عند رؤيته لما أذن الله - تعالى - له فى رؤيته.
والزيغ: هو الميل عن حدود الاستقامة. والطغيان: تجاوز الحدود المشروعة.
أى: ما مال بصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أذن الله - تعالى - له فى رؤيته. وما تجاوزه إلى ما لم يؤذن له فى رؤيته، بل كان بصره - صلى الله عليه وسلم - منصبا على ما أبيح له النظر إليه.
فالمقصود من الآية الكريمة، الثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم -، ووصفه بما هو أهله من أدب وطاعة لخالقه - عز وجل -.
قال ابن كثير: قوله: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } قال ابن عباس: ما ذهب يمينا ولا شمالا، وما جاوز ما أمر به، وهذه صفة عظيمة فى الثبات والطاعة. فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطى، وما أحسن قول القائل:

رأى جنة المأوى وما فوقها ولورأى غيره ما قد رآه لتاها

ثم عظم - سبحانه - من شأن ما أراه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }.
والكلام جواب لقسم محذوف، والآيات جمع آية، والمراد بها العجائب التى أطلع الله - تعالى - عليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة، وهى ليلة الإِسراء والمعراج.
والكبرى: صفة لهذه الآيات، وحذف المرئى: لتفخيم أمره وتعظيمه.
أى: والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف، وقد أكرمناه برؤيتها ليزداد يقينا على يقينه، وثباتا على ثباته، وقوة على قوته فى تبليغ رسالتنا، وحمل أمانتنا.
هذا، وقد جرينا فى تفسيرنا لهذه الآيات على الرأى الذى سار عليه المحققون من العلماء وهو أن هذه الآيات تحكى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل مرتين، كما سبق أن بينا، وأن الضمائر فى تلك الآيات منها ما يرجع إلى جبريل، ومنها ما يرجع إلى الله - عز وجل -.
وقد أعدنا كل ضمير إلى مرجعه الذى نراه مناسبا للمقام..
فمثلا: الضمير المنصوب فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قلنا: إنه يعود إلى جبريل. أى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى، غير المرة الأولى التى كانت فى أوائل بعثته - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن بعض المفسرين يرون أن مرجع الضمير فى هذه الآية وغيرها، يعود إلى الله - تعالى -، ويستدلون بذلك على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه.
وقد فصل القول فى هذه المسألة الإِمام الآلوسى فقال ما ملخصه: فالضمائر فى "دنا"وتدلى"وأوحى.." وكذلك الضمير المنصوب فى "رآه" لله - عز وجل -..
واستدل بذلك مثبتو رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - كابن عباس وغيره..
وخالفت فى ذلك عائشة - رضى الله عنها - فقد أخرج مسلم عن مسروق قال:
"كنت عند عائشة فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله - تعالى - الفرية.
قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد كذب. ومن زعم أن محمدا كتم شيئا فقد كذب، ومن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فقلت: يا أم المؤمنين: ألم يقل الله - تعالى -: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }؟. فقالت: أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: لا، إنما هو جبريل، لم أره على صورته التى خلق عليها سوى هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء سادا ما بين السماء إلى الأرض"
.
ثم قال الآلوسى: ولا يخفى أن جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، ظاهر فى أن الضمير المنصوب فى { رَآهُ } ليس راجعا إليه - تعالى -، بل إلى جبريل - عليه السلام -...
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها ترد على المشركين مزاعمهم، بأبلغ أسلوب، وأقوى بيان، وتثبت أن هذا القرآن، قد بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - دون أن يزيد فيه شيئا، أو ينقص منه شيئا، وأنه - سبحانه - قد أعطى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات، ومن الخيرات والبركات.. ما لم يعط غيره.
وبعد هذا التصوير البديع لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من حق واضح، ومن تكريم عظيم ومن طاعة تامة لخالقه - عز وجل - بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة، فى تصوير ما عليه المشركون من باطل وجهل وفى تبكيتهم على عبادتهم لأصنام لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها.. فقال - تعالى -:
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ... }.