التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ
٢٤
فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ
٢٥
وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ
٢٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ
٢٧
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً
٢٨
-النجم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والهمزة فى قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ } للإِنكار والتهكم، والفاء لترتيب الرؤية على ما سبق ذكره من صفات جليلة لله - تعالى - تدل على وحدانيته، وكمال قدرته، ومن ثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبريل - عليه السلام - والرؤية هنا، علمية ومفعلوها الثانى محذوف، لدلالة قوله - سبحانه - { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } عليه.
و"اللات" اسم لصنم كان لثقيف بالطائف. قال الشاعر:

وفرت ثقيف إلى "لاتها"بمنقلب الخائب الخاسر

وكان هذا الصنم على هيئة صخرة مربعة، قد بنوا عليه بناء ونقشوا عليه نقوشا، وكانت قريش وجمهور العرب، يعظمونه ويعبدونه..
وكأنهم قد سموه بهذا الاسم، على سبيل الاشتقاق من اسم الله - تعالى - فقالوا "اللات" قصداً للتأنيث..
و { وَٱلْعُزَّىٰ }: فُعْلَى من العز. وهى اسم لصنم، وقيل لشجرة حولها بناء وأستار، وكانت بمكان يقال له نخلة، بين مكة والطائف، وكانت قريش تعظمها، كما قال أبو سفيان يوم أحد "لنا العزى ولا عزى لكم".
فقال - صلى الله عليه وسلم - قولوا له:
"الله مولانا ولا مولى لكم" .
ولعلهم قد سموها بذلك. أخذا من لفظ العزيز، أو من لفظ العز، فهى تأنيث الأعز، كالفضلى والأفضل.
وأما "مناة" فكانت صخرة ضخمة، بمكان يقال له المشلل، بين مكة والمدينة، وكانت قبيلة خزاعة والأوس والخزرج فى جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
قالوا: وسميت بهذا الاسم، لأن دماء الذبائح كانت تمنى عندها، أى: تراق وتسكب.
والمعنى: لقد ذكرنا لكم - أيها المشركون - ما يدل على وحدانيتنا، وكمال قدرتنا، وسمو منزلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - .. فأخبرونى بعد ذلك ما شأن هذه الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. إنها أشياء فى غاية الحقارة والعجز، فكيف سويتم بينها وبين الخالق - عز وجل - فى العبادة، وكيف أبحتم لأنفسكم تعظيمها، وزعمتم أنها بنات الله..؟.
فالمقصود بالاستفهام التعجيب من أحوالهم، والتجهيل لعقولهم.
ويصح أن تكون الرؤية فى قوله - سبحانه - { أَفَرَأَيْتُمُ } بصرية، فلا تحتاج إلا لمفعول واحد. أى: انظروا بأعينكم إلى تلك الأصنام، التى من أشهرها: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أترونها تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها؟ إنها لا تملك شيئا، فكيف عظمتموها مع حقارتها وعجزها؟
والاستفهام - أيضا - للتهكم بهم، والتعجيب من تفكيرهم السقيم.
قال الآلوسى: والظاهر أن "الثالثة الأخرى" صفتان لمناة. وهما على ما قيل للتأكيد..
وقال بعض الأجلة: الثالثة للتأكيد. و { ٱلأُخْرَىٰ } للذم بأنها متأخرة فى الرتبة، وضيعة المقدار..
والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات، وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون: إن الملائكة - عليهم السلام - وتلك المعبودات الباطلة، بنات الله. - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم تويبخا وتبكيتا: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ.... } الخ.
وقوله - سبحانه -: { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } توبيخ آخر لهم على جهلهم، وبيان لسبب التوبيخ والتهكم..
ولفظ "ضيزى" بمعنى جائرة وظالمة. يقال: ضاز فلان فى حكمه، إذا جار وظلم ولم يراع القسط فى أقواله وأفعاله، ويقال: ضاز فلان فلانا حقه، إذا بخسه ونقصه..
قال الجمل ما ملخصه: قرأ الجمهور { ضِيزَىٰ } من ضازه يضيزه. إذا جار عليه، فمعنى "ضيزى" جائرة. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما أن تكون صفة على "فعلى"، - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض - جمع أبيض -..
وثانيهما: أن تكون من ضأزه بالهمز كقراءة ابن كثير، إلا أن الهمزة قد خففت.. ومعنى ضأزه يضأزه: نقصه...
أى: أجعلتم لله - تعالى - البنات، وجعلتم لأنفسكم البنين، مع تفضيلكم للبنين على البنات، ومع اعترافكم بأن الله - تعالى - هو الخالق لكم ولكل شىء.
إن فعلكم هذا لهو فى غاية الجور والظلم، لأنكم نسبتم إلى الله - تعالى - وهو خالقكم ما استنكفتم من نسبه لأنفسكم..
فأنت ترى أنه - سبحانه - لم يكتف بوصفهم بالكفر، بل أضاف إلى ذلك وصفهم بالجور والحمق وانطماس البصيرة.
وجملة: { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } تعليل للإِنكار والتوبيخ المستفاد من الاستفهام فى قوله: { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ }.
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله: { أَلَكُمُ... } لإِفادة التخصيص.
والإِشارة بتلك تعود إلى القسمة المفهومة من قوله: { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } و { إِذاً } فى قوله: { تِلْكَ إِذاً... } حرف جواب. أى: إن كان الأمر كما زعمتم، فقسمتكم إذا قسمة جائرة ظالمة.
ثم بين لهم - سبحانه - وجه الحق فى هذه الأصنام فقال: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ... }. أى: ما هذه الأصنام التى عبدتموها من دون الله، أو توهمتم أنها تشفع لكم عنده - تعالى -. ما هى إلا أسماء محضة، ليس فيها شىء أصلا من صفات الألوهية، وأنتم وآباؤكم سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، دون أن يكون معكم على هذه التسمية شىء من الحجة أو الدليل أو البرهان..
فالضمير "هى" يعود إلى اللات والعزى ومناة وغيرها من الآلهة الباطلة.
والمراد بقوله: { أَسْمَآءٌ }: أنها ليس لها من الألوهية التى أثبتوها لها سوى اسمها، وأما معناها وحقيقتها فهى أبعد ما تكون عن ذلك..
وجملة "سميتموها" صفة للأسماء، والهاء هى المفعول الثانى، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: إن هى إلا أسماء سميتموها الأصنام، أى: سميتم بها الأصنام.
والمراد بالسلطان: الحجة والدليل، والمراد بالإِنزال: الإِخبار بأنها آلهة و "من" مزيدة لتوكيد عدم الإِنزال على سبيل القطع والبت..
أى: ما أخبر الله - تعالى - عنها بأنها آلهة، بأى لون من ألوان الإِخبار، ولا توجد حجة من الحجج حتى ولو كانت واهية تشير إلى ألوهيتها..
ثم يهمل - سبحانه - خطابهم بعد ذلك، ويذرهم فى أوهامهم يعمهون، ويلتفت بالحديث عنهم حتى كأنهم لا وجود لهم، فيقول: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ... }.
أى: ما يتبع هؤلاء الجاهلون فى عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة، إلا الظنون الكاذبة، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر..
فالمراد بالظن هنا: الظن الباطل الذى يقوم على الاعتقاد الفاسد، كما فى قوله - تعالى -:
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } والتعريف فى قوله - سبحانه -: { وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ } عوض عن المضاف إليه. و { مَا } موصولة والعائد محذوف. أى: والذى تهواه أنفسهم التى استحوذ عليها الشيطان..
وجملة: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } حالية من فاعل "يتبعون"، وجىء بها لزيادة التعجب من حالهم.
أى: هم ما يتبعون إلا الظنون وما تهواه أنفسهم المحجوبة عن الحق، والحال أنه قد جاء إليهم، ووصل إلى مسامعهم من ربهم، ما يهديهم إلى الصواب لو كانوا يعقلون.
وأكد - سبحانه - هذه الجملة بلام القسم وقد، لتأكد الخبر، ولزيادة التعجب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الغرابة..
والتعبير بقوله: { جَآءَهُم } يشعر بأن الحق قد وصل إليهم بدون عناء منهم، ولكنهم مع ذلك رفضوه وأعرضوا عنه.
والتعريف فى لفظ "الهدى" يدل على كماله وسموه. أى. ولقد جاءهم من ربهم الهدى الكامل الذى ينتهى بمن يتبعه إلى الفوز والسعادة.
والمراد به: ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من قرآن كريم ومن سنة مطهرة..
ثم بين - سبحانه - أن شهوات النفس ومطالبها وأمنياتها لا تتحقق إلا فى الإِطار الذى يريده الله - تعالى - لها، فقال: { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ }.
والاستفهام هنا - أيضا - للإِنكار، ولإِبطال اتباعهم للظنون ولما تهوان أنفسهم..
أى: إن هؤلاء قد اتبعوا فى ضلالهم وكفرهم الظنون والأوهام، وما تشتهيه قلوبهم من حب للرياسة، ومن تقليد للآباء، ومن تطلع إلى أن هذه الأصنام ستشفع لهم عند الله - تعالى -.. مع أن وقائع الحياة وشواهدها التى يرونها بأعينهم، تدل دلالة واضحة، على أنه ليس كل ما يتمناه الإِنسان يدركه، وليس كل ما يريده يتحقق له.. لأن كل شىء فى هذه الحياة مرهون بإرادته ومشيئته - سبحانه - وهو - عز وجل - صاحب الدار الآخرة، وصاحب الدار الأولى وهى دار الدنيا، ولا يقع فيهما إلا ما يريده..
فالمقصود من الآيتين الكريمتين، نفى ما كان يتمناه أولئك المشركون من شفاعة أصنامهم لهم يوم القيامة، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ... } ونفى ما كانت تتطلع إليه نفوس بعضهم، من نزول القرآن عليه، أو من اختصاصه بالنبوة. فقد حكى - سبحانه - عنهم قولهم: { .. لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } كما أن المقصود بها كذلك، ترويض النفس البشرية على عدم الجرى وراء ظنونها وأهوائها، بل عليها أن تتمسك بالحق، وأن تعتصم بطاعة الله - تعالى - وأن تباشر الأسباب التى شرعها - سبحانه -، ثم بعد ذلك تترك النتائج له يسيرها كيف يشاء، فإن له الآخرة والأولى.
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله: { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } لإِفادة أن هذا التمنى هو محط الإِنكار، وأن الإِنسان العاقل هو الذى لا يجرى وراء أمنياته، وإنما هو الذى يسعى إلى تحقيق ما أمره الله - تعالى - به من تكاليف.
وقدم - سبحانه - الآخرة على الأولى، لأنها الأهم، إذ نعيمها هو الخالد الباقى، أما شهوات الدنيا وملذاتها، فهى مهما كثرت، زائلة فانية.
ثم بين - سبحانه - أن الملائكة مع سمو منزلتهم، وشدة حرصهم على طاعة الله - تعالى -، لا يملكون الشفاعة لأحد إلا بإذنه - عز وجل - فقال: { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ }.
و "كم" هنا خبرية بمعنى كثير، وهى فى موضع رفع على الابتداء، وخبرها جملة، "لا تغنى شفاعتهم..." وهى وإن كانت مفردة لفظا، إلا أنها فى معنى الجمع..
أى: وكثير من الملائكة المقربين لدينا فى السموات العلا، لا تغنى شفاعتهم عندنا شيئا من الأشياء. إلا من بعد أن يأذن الله - تعالى - لهم فيها، لمن يشاء أن يشفعوا له، ويرضى - سبحانه - عن هذا المشفوع له.
فالآية الكريمة من قبيل ضرب المثل للمشركين، الذين توهموا أن أصنامهم ستشفع لهم، وكأنه - سبحانه - يقول لهم: إذا كان الملائكة مع سمو منزلتهم عندنا لا يشفعون إلا بإذننا، ولمن نرضى عنه... فكيف وصل بكم الجهل والحمق - أيها المشركون - إلى توهم أن أصنامكم - مع خستها وحقارتها - ستشفع لكم عندنا؟.
وقوله: { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } صفة "لملك" والمقصود بهذه الصفى التشريف والتكريم.
وقوله: { شَيْئاً } التنكير فيه للتقليل والتعميم، وهو فى موقع المفعول المطلق.
أى: لا تغنى شفاعتهم شيئا من الإِغناء حتى ولو كان فى غاية القلة..
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. } وقوله - سبحانه -: { .. وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وهذه الآيات الكريمة بجانب تيئيسها للكافرين من الحصول على أية شفاعة، لأنهم ليسوا ممن رضى الله عنهم، تدعو المؤمنين إلى مواصلة المحافظة على أداء حقوقه - سبحانه -، لينالوا رضاه عنهم يوم القيامة، وليكونوا أهلا للحصول على الشفاعة التى يبغونها.
ثم عادت السورة إلى ذم الكافرين الذين وصفوا الملائكة بصفات لا تليق بهم. فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } وما فيها من حساب وجزاء وثواب وعقاب... { لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ } أى: ليصفون الملائكة بوصف الإِناث فيقولون: الملائكة بنات الله كما قال - تعالى -:
{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } ولفظ: "الملائكة" هنا فى معنى استغراق كل فرد، أى: ليسمون كل واحد منهم ويصفونه بصفة الأنوثة.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ... } رد عليهم فيما قالوه، وتجهيل لهم فيما زعموه، والجملة حال من ضمير "ليسمون".
أى: إنهم ليصفون الملائكة بالأنوثة، والحال أنهم لا علم لهم بتكوين هؤلاء الملائكة، أو بصفتهم.. وإنما يتبعون الظن الباطل فى أقوالهم وأحكامهم.
{ .. وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } أى: وإن الظن الباطل، والاعتقاد الخاطىء لا يغنى فى معرفة الحق شيئا، حتى ولو كان هذا الشىء قليلا، لأن العقائد السليمة، لا تبنى على الظنون والأوهام، وإنما تبنى على الحقائق الراسخة والعلوم الثابتة.
وأظهر - سبحانه - لفظ الظن هنا، مع تقدم ذكره لتكون الجملة مستقلة بنفسها، ولتكون - أيضا - بمثابة المثل الذى يقال فى الموضع الذى يناسبه.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد وبخت المشركين على شركهم بأسلوب منطقى سليم، حيث ساقت لهم الحقائق فى أسلوب يغلب عليه طابع الموازنة والمقارنة، والاستشهاد بالواقع، ووضع أيديهم على أماكن الدواء، لو كانوا من يريدونه، ويبحثون عنه.
وبعد هذا البيان الحكيم الذى يحق الحق، ويبطل الباطل، أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أى يمضى فى طريقه الذى رسمه - سبحانه - له، وأن يترك حساب هؤلاء الضالين لله - تعالى - الذى يجازى كل نفس بما كسبت، والذى يعلم السر وأخفى، والذى رحمته وسعت كل شىء.. فقال - تعالى -: { فَأَعْرِضْ عَن... }.