التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
٥٢
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
٥٣
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
٥٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
٥٥
هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ
٥٧
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ
٥٨
أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
٥٩
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
٦٠
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
٦١
فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ
٦٢
-النجم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى -: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } منها: أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة، كان قد سمع قراءة النبى - صلى الله عليه وسلم -، وجلس إليه ووعظه، فَهَمَّ أن يدخل فى الإِسلام. فعاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة، لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال.
فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عماهم به من الدخول فى الإِسلام، وأعطى بعض المال لذلك الرجل، ثم أمسك عن الباقى، وبخل به، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات...
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَفَرَأَيْتَ... } للتعجيب من حال هذا الإِنسان، الذى أعرض عن الحق، بعد أن عرف الطريق إليه.
أى: أفرأيت - أيها الرسول الكريم - حالا أعجب من حال هذا الإِنسان الذى تولى عن الهدى، ونبذه وراء ظهره، بعد أن قارب الدخول فيه.
{ وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً } من العطاء { وَأَكْدَىٰ } أى ثم قطع هذا العطاء.
قال صاحب الكشاف: { وَأَكْدَىٰ } أى: وقطع عطيته وأمسك، وأصله إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كديه، وهى صلابة كالصخر فيمسك عن الحفر...
والمراد به هنا: ذمه بالبخل والشح، بعد ذمه بالتولى عن الحق.
{ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } أى: أعند هذا الإِنسان الذى أعرض عن الرشد، علم الغيوب المستترة عن الأعين والنفوس، فهو وحده يراها، ويطلع عليها ويعلم أن فى إمكان الغير أن يحمل عنه أوزاره وذنوبه يوم القيامة؟.
كلا، إنه لا علم عنده بشىء من ذلك، وإنما هو قد ارتد على أعقابه، لانطماس بصيرته. بعد أن قارب الرشد والصواب.
فالاستفهام فى قوله: { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ... } للنفى والإِنكار.
وقدم - سبحانه - الظرف "عنده" وهو مسند، على "علم الغيب" وهو مسند إليه، لإِفادة الاهتمام بهذه العندية التى من أعجب العجب ادعاؤها، وللإِشعار بأنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء.
والفاء فى قوله: { فَهُوَ يَرَىٰ } للسببية، ومفعول { يَرَىٰ } محذوف.
أى: فهو بسبب معرفته للعوالم الغيبية، يبصر رفع العذاب عنه، ويعلم أن غيره سيتكفل بافتدائه من هذا العذاب.
ثم وبخه - سبحانه - على جهالته وعدم فهمه فقال: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ... }.
و "أم" هنا للإِضراب الانتقالى من ذمه على إعراضه وبخله، إلى ذمه على جهله وحمقه، وصحف موسى: هى التوراة التى أنزلها - سبحانه - عليه.
وصحف إبراهيم: هى الصحف التى أوحى الله - تعالى - إليه بما فيها، وقد ذكر سبحانه ذلك فى قوله تعالى :
{ إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } وخصت صحف هذين النبيين الكريمين بالذكر، لأنها كانت أشهر من غيرها عند العرب، وكانوا يسألون أهل الكتاب من اليهود عما خفى عليهم من صحف موسى.
وقدم - سبحانه - هنا صحف موسى، لاشتهارها بسعة الأحكام التى اشتملت عليها، بالنسبة لما وصل إليهم من صحف إبراهيم.
وأما فى سورة الأعلى فقدمت صحف إبراهيم على صحف موسى لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى، وصحف إبراهيم أقدم من صحف موسى، فكان الإِتيان بهما على الترتيب الزمنى أنسب بالمقام.
وحذف - سبحانه - متعلق "وفَّى" ليتناول كل ما يجب الوفاء به، كمحافظته على أداء حقوق الله - تعالى -، واجتهاده فى تبليغ الرسالة التى كلفه - سبحانه - بتبليغها، ووقوفه عند الأوامر التى أمره - تعالى - بها، وعند النواهى التى نهاه عنها..
و (أن) فى قوله - تعالى -: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } مخففة من الثقيلة. واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة بدل من صحف موسى وإبراهيم.
وقوله { تَزِرُ } من الوزر بمعنى الحمل.. وقوله { وَازِرَةٌ } صفة لموصوف محذوف. أى: نفس وازرة.
والمعنى: إذا كان هذا الإِنسان المتولى عن الحق.. جاهلا بكل ما يجب العلم به من شئون الدين، فهلا سأل العلماء عن صحف موسى وإبراهيم - عليهما السلام - ففيها أنه لا تحمل نفس آئمة حمل أخرى يوم القيامة.
قال الآلوسى: وقوله: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أى: أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل، حمل نفس أخرى.. ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره. ليتخلص الثانى من عقابه. ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فإن ذلك وزر الإِضلال الذى هو وزره لا وزر غيره.
وقوله تعالى:- { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ... } معطوف على ما قبله، لبيان عدم إثابة الإِنسان بعمل غيره، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه.
أى: كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى، فكذلك لا يحصل الإِنسان إلا على نتيجة عمله الصالح، لا على نتيجة عمل غيره.
فالمراد بالسعى فى الآية. السعى الصالح، والعمل الطيب، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب.
وقوله - تعالى -: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة.
أى: ليس للإِنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة، وفى ميزان حسناته، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل. الذى لا نقص فيه ولا بخس.
وفى رؤية الإِنسان لعمله الصالح يوم القيامة، تشريف وتكريم له، كما قال - تعالى -
{ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } هذا، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى -: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } وبين النصوص التى تفيد أن الإِنسان قد ينتفع بعمل غيره، وهذه خلاصة لأقوالهم:
قال الإِمام ابن كثير: ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى. لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.
فأما الدعاء والصدقة، فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به" . فهذه الثلاثة فى الحقيقة. هى من سعيه وكده وعمله.
وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين: واستشكل الحصر فى هذه الآية { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } بقوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ... } وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..." .
وأجيب: بأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى، لأنها حكاية لما فى صحفهم، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى، وما سعى لها غيرها، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة. وهو انتفاع بعمل الغير، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإِنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة، قد خصصت بأمور كثيرة..
ثم قال الشيخ الجمل -رحمه الله -: وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإِنسان لا ينتفع إلا بعمله. فقد خرق الإِجماع. وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإِنسان ينتفع بدعاء غيره. وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها.
ثالثها: أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعى الغير.
رابعها: أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.
خامسها: أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم.
سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.
سابعها: قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتيمين:
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فانتفعا بصلاح أبيهما، وليس من سعيهما.
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعتق، بنص السنة والإِجماع، وهو من عمل الغير.
تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت، بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور، يسقط عن الميت بعمل غيره، وهو انتفاع بعمل الغير.
حادى عشر: المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير.
ثانى عشر: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده:
"ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه" فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.
ثالث عشر: أن الإِنسان تبرأ ذمته من ديون الغير، إذا قضاها عنه قاض، وذلك انتفاع بعمل الغير.
رابع عشر: أن من عليه تبعات ومظالم، إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير.
خامس عشر: أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير.
سادس عشر: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن معهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.
سابع عشر: الصلاة على الميت، والدعاء له فى الصلاة، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره.
ثامن عشر: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض.
تاسع عشر: أن الله - تعالى - قال لنبيه:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال - تعالى -: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ.. } فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير.
تمام العشرين: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه، ولا سعى له فيها.
ثم قال -رحمه الله -: ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإِنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة، على خلاف صريح الكتاب والسنة، وإجماع الأمة...
والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة. كما سبق أن أشرنا، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام -، لأنها حكاية عما فى صحفهما، أما الأمة الإِسلامية فلها سعيها، ولها ما سعى لها به غيرها، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة.
وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية: ليس للإِنسان إلا ما سعى عدلا، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا.
ولهذه المسألة تفاصيل أخرى فى كتب الفقه، فليرجع إليها من شاء.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته، فقال - تعالى -: { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ }. أى: وأن إلى ربك وحده - لا إلى غيره - انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
فقوله: { ٱلْمُنتَهَىٰ }: مصدر بمعنى الانتهاء، والمراد بذلك مرجعهم إليه - تعالى - وحده، { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أى: وأنه - سبحانه - هو الذى أوجد فى هذا الكون ما يؤدى إلى ضحك الإِنسان وسروره تارة، وما يؤدى إلى حزنه وبكائه تارة أخرى، فبسبب ما يحيط بالإنسان من مؤثرات ومن مشاعر مختلفة: تارة يضحك وتارة يبكى.
وما أكثر هذه المؤثرات والأحوال والاعتبارات والدوافع.. فى حياة الإِنسان.
فالآية الكريمة انتقال من وجوب الاعتبار بأحوال الآخرة إلى وجوب الاعتبار بأحوال الإِنسان، وبما يحيط به من مؤثرات تارة تضحكه وتارة تبكيه.
وأسند - سبحانه - الفعلين إليه؛ لأنه هو خالقهما، وهو الموجد لأسبابهما.
وحذف - سبحانه - المفعول به لهما، لأنهما هما المقصودان بالذات، لدلالتهما على كمال قدرته - تعالى - أى: وأنه وحده - عز وجل - هو الذى أوجد فى الإِنسان الضحك والبكاء، فالفعلان منزلان منزلة الفعل اللازم.
وقدم - سبحانه - الضحك على البكاء، للإِشعار بمزيد فضله ومنته على عباده.
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أى: وأنه - تعالى - بقدرته وحدها، هو الذى أحيا من يريد إحياءه من مخلوقاته، وأمات من يريد إماتته منهم.
وهذا رد على أولئك الجاهلين الذين أنكروا ذلك، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم -
{ ... مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ.. } وقوله - سبحانه - { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ }.
وأصل النطفة: الماء الصافى، أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة، وجمعها نطف ونطاف، يقال: نطفت القربة، أذا تقاطر ماؤها بقلة.
وقوله: { تُمْنَىٰ } أى: تتدفق فى رحم المرأة، يقال: أمْنَى الرجل وَمنَى إذا خرج منه المَنِىِّ.
أى: وأنه - تعالى - وحده، هو الذى خلق الزوجين الكائنين من الذكر والأنثى، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى، فتلتقى ببويضة الأنثى، فيكون منهما الإِنسان - بإذن الله -.
كما قال - تعالى -:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } وقوله - سبحانه -: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } أى: وأن عليه وحده - سبحانه - الإِحياء بعد الإِماتة، والإِعادة إلى الحياة مرة أخرى يوم البعث والنشور.
والنشأة هى المرة من الإِنشاء، أى: الإِيجاد والتكوين والحلق، والأخرى: مؤنث الأخير، والمراد أنه - سبحانه - يوجد النشأة التى لا نشأة بعدها.
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أى: وأنه - سبحانه - هو الذى أغنى الناس بالأموال الكثيرة المؤثلة، التى يقتنيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم ولمن بعدهم.
فقوله: { أَقْنَىٰ } من القنية بمعنى الادخار للشىء، والمحافظة عليه.
قال الآلوسى: قوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أى: وأعطى القُنْية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال، ببقاء نفسه، كالرياض والحيوان والبناء.
وأفرد - سبحانه - ذلك بالذكر مع دخوله فى { أَغْنَىٰ } لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها..
وإنما لم يذكر المفعول، لأن القصد إلى الفعل نفسه...
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } أى: وأنه - سبحانه - هو رب ذلك الكوكب المضىء، الذى يطلع بعد الجوزاء فى شدة الحر، ويسمى الشعرى اليمانية.
وخص هذا النجم بالذكر، مع أنه - تعالى - هو رب كل شىء لأن بعض العرب كانوا يعبدون هذا الكوكب، فأخبرهم - سبحانه - بأن هذا الكوكب مربوب له - تعالى - وليس ربا كما يزعمون.
قال القرطبى: واختلف فيمن كان يعبده: فقال السدى: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده رجل يقال له أبو كبشة، أحد أجداد النبى - صلى الله عليه وسلم - من جهة أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبى - صلى الله عليه وسلم - ابن أبى كبشة. حين دعاهم إلى ما يخالف دينهم...
وبعد هذه الجولة فى الأنفس والآفاق، ساقت السورة جانبا من مصارع الغابرين، فقال - تعالى -: { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ }. أى: وأنه - تعالى - هو الذى أهلك بقدرته قبيلة عاد الأولى، وهم قوم هود - عليه السلام -.
وسميت قبيلة عاد بالأولى، لتقدمها فى الزمان على قبيلة عاد الثانية، التى هى قوم صالح - عليه السلام -، وتسمى - أيضا - بثمود.
وقوله: { وَثَمُودَ } معطوف على عاد. أى: وأنه أهلك - أيضا - قبيلة ثمود، دون أن يبقى منهم أحدا.
وهلاك هاتين القبيلتين قد جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى -:
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } وقوله: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ... } أى: وأهلك - أيضا - قوم نوح من قبل إهلاكه لعاد وثمود..
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ } أى: قوم نوح { هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } أى: هم كانوا أشد فى الظلم والطغيان من عاد وثمود، فقد آذوا نوحا - عليه السلام - أذى شديدا، استمر صابرا عليه زمنا طويلا. وكان هلاكهم بالطوفان، كما قال - تعالى -:
{ فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } وقدم قبيلتى عاد وثمود فى الذكر على قوم نوح - مع أن قوم نوح أسبق - لأن هاتين القبيلتين كانتا مشهورتين عند العرب أكثر، وديارهم معروفة لهم.
والمراد بالمؤتفكات قوم لوط - عليه السلام -، وسموا بذلك لأن قريتهم ائتفكت بأهلها، أى: انقلبت راسا على عقب. يقال: أفَكَه عن كذا يَأْفِكُه إذا قلبه وصرفه. ومنه الإِفك، لأنه قلب للحق عن وجهه الصحيح.
أى: وأهلك - سبحانه - القرى المؤتفكة بأهلها، بأن أهوى بها جبريل - عليه السلام - إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أى: فأصابها ما أصابها من العذاب المهين، والدمار الشامل، كما قال - تعالى -:
{ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } ويجوز أن يكون الضمير فى { فَغَشَّاهَا } يعود إلى جميع الأمم المذكورة، وأبهم - سبحانه - ما غشيهم من عذاب، للتهويل والتعميم.
وقوله - سبحانه - { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } تذكير بنعم الله - تعالى - بعد التحذير من نقمة. أى: فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك أيها الإِنسان.
والآلاء: جمع إلًى، وأى: اسم استفهام المقصود به التذكير بهذه النعم.
وسمى - سبحانه - ما مر فى آيات السور نعما، مع أن فيها النعم والنقم، لأن فى النقم عظات للمتعظين، وعبرا للمعتبرين، فهى نعم بهذا الاعتبار.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد، فقال - تعالى -: { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } والنذير بمعنى المنذر، وهو من يخبر غيره بخبر فيه مضرة به، لكى يحذره. أى: هذا الرسول الكريم، وما جاء به من قرآن حكيم، نذير لكم - أيها الناس - من جنس الإِنذارات الأولى. التى أتى بها الأنبياء السابقون لأممهم فاحذروا مخالفة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لأن مخالفته تؤدى إلى هلاككم وخسرانكم.
فقوله - تعالى -: { مِّنَ ٱلنُّذُرِ } على حذف مضاف، أى: من جنس النذر التى سبقت..
{ أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أى: قربت الساعة، ودنت القيامة، يقال: أزِف السفر - كفرح - أزَفاً، إذا دنا وقرب، وأل فى الآزفة للعهد، وهى عَلَم بالغلبة على الساعة.
{ لَيْسَ لَهَا } أى: الساعة { مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أى: ليس لها أحد سوى الله - تعالى - يستطيع الإِخبار عنها، والكشف عن علاماتها، والعلم بوقتها وبوقوعها.
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } للإِنكار والتوبيخ.
أى: أفمن هذا القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات.. تتعجبون، وتنكرون كونه من عند الله - تعالى -.
{ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أى: وتضحكون ضحك استهزاء وتهكم منه وممن جاء به - صلى الله عليه وسلم - ولا تبكون خشية من الله - تعالى -، ومن سماع ما اشتمل عليه هذا القرآن من وعد ووعيد.
{ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أى: وأنتم لاهون معرضون، يقال: سمَد يسمُد: كدخل - إذ اشتغل باللهو والإِعراض عن الرشد.
أو المعنى: وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا يقال: سمَد سمودا، إذا رفع رأسه تكبرا وغرورا، وكل متكبر فهو سامد، ومنه قولهم: بعير سامد فى سيره إذا رفع رأسه متبختراً فى مشيته.
وقيل السمود: الغناء بلغة حمير، ومنه قوله بعضهم لجاريته: اسمدى لنا، أى: غنى لنا.
أى: وأنتم سادرون فى غنائكم ولهوكم، دون أن تكترثوا بزواجر القرآن الكريم.
وقوله - سبحانه -: { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم، ونهى لهم عن الكفر والضلال.
فالفاء فى قوله - تعالى -: { فَٱسْجُدُواْ } لترتيب الأمر بالسجود، على الإِنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم.
والمراد بالسجود: الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له، ويندرج فيه سجود الصلاة، وسجود التلاوة.
أى: اتركوا ما أنتم عليه من كفر وضلال. وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل، وبالعبادة التامة، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه -.
قال الآلوسى: وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها.
أخرج الشيخان، وأبو داود، والنسائى عن ابن مسعود قال:
"أول سورة أنزلت فيها سجدة: سورة النجم فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا" .
هذا، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق. وملخصها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم، فلما بلغ قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
وقد قال الإِمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة: إنها من روايات وطرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى -:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل...
وبعد. فهذا تفسير لسورة "النجم" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم..