التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ
١٠
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
١١
وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
١٢
وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
١٣
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
١٤
وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٥
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٦
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٧
-القمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقصة نوح - عليه السلام - مع قومه، قد وردت بصورة أكثر تفصيلا فى سورة أخرى. كسورة هود، والمؤمنون، ونوح، والأعراف.
ولكنها جاءت هنا - كغيرها من القصص - بصورة حاسمة قاصمة، تزلزل النفوس، وتفتح العيون على مصارع الغابرين، لكى يعتبر الكافرون، وينتهوا عن كفرهم.
قال الآلوسى: قوله: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ... } شروع فى تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للانزجار، ونوع تفصيل لها، وبيان لعدم تأثرهم بها، تقريرا لفحوى قوله
{ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } والفعل "كذبت" منزل منزلة اللازم. أى: فَعل التكذيب قبل قومك قوم نوح...
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المصيبة إذا عمت خفت، وشبيه بهذه الآية قوله - سبحانه -:
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ... } وأسند - سبحانه - التكذيب إلى جميع قوم نوح - عليه السلام -. لأن الذين آمنوا به منهم عدد قليل، كما قال - تعالى -: فى سورة هود: { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } وقوله - تعالى -: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } تأكيد لتكذيبهم له - عليه السلام -، فكأنه - سبحانه - يقول: إن قوم نوح - عليه السلام - قد اصروا على تكذيبهم لعبدنا ونبينا، وتواصوا بهذا التكذيب فيما بينهم، حتى لكأن الكبار قد أوصوا الصغار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله: { كُذِّبَتْ }؟ قلت معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا. أى: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعهم قرن مكذب.
أو معناه: كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا، أى: لما كانوا مكذبين بالرسل، جاحدين للنبوة رأسا، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل...
وقوله - سبحانه -: { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } بيان لما كانوا عليه من انطماس بصيرة، ومن سوء خلق.. أى: أنهم لم يكتفوا بتكذيب نبيهم ومرشدهم وهاديهم إلى الخير. بل أضافوا إلى ذلك وصفه بالجنون، والاعتداء عليه بأنواع الأذى والترهيب.
فقوله: { وَٱزْدُجِرَ } معطوف على قوله { قَالُواْ } وهو مأخوذ من الزجر بمعنى المنع والتخويف، وصيغة الافتعال للمبالغة فى زجره وإيذائه.
وقد حكى القرآن فى آيات أخرى ألوانا من هذا الزجر والإِيذاء ومن ذلك قوله - تعالى - كما حكى عنهم:
{ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } ثم حكى - سبحانه - ما فعله نوح - عليه السلام - بعد أن صبر على إيذاء قومه فقال: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ }.
أى: وبعد أن يئس نوح - عليه السلام - من إيمان قومه.. تضرع إلى ربه قائلا: يارب إن قومى قد غلبونى بقوتهم وتمردهم.. فانتصر لى منهم، فأنت أقوى الأقوياء، وأعظم نصير للمظلومين والمغلوبين على أمرهم من أمثالى.
وحذف متعلق "فانتصر" للإِيجاز. أى: فانتقم لى منهم.
ولقد كانت نتيجة هذا الدعاء، الإِجابة السريعة، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله - تعالى - بعد ذلك: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ }.
أى: فأجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء بماء كثير منهمر، أى: منصب على الأرض بقوة وبكثرة وتتابع. يقال: همر فلان الماء يهمر - بكسر الميم وضمها - إذا صبه بكثرة. وقراءة الجمهور { فَفَتَحْنَآ } بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر بتشديدها على المبالغة.
قال الجمل: والمراد من الفتح والأبواب والسماء: حقائقها فإن للسماء أبوابا تفتح وتغلق. والباء فى قوله: { بِمَاءٍ } للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التى يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح...
وقوله: { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً... } معطوف على قوله: { فَفَتَحْنَآ } وتفجير الماء: إسالته بقوة وشدة وكثرة، ومنه قوله - تعالى -:
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } وقوله: { عُيُوناً } تمييز محول عن المفعول به، والأصل: وفجرنا عيون الأرض، ولكن جىء به على هذا الأسلوب المشتمل على التمييز للمبالغة، حتى لكأن الأرض جميعها قد تحولت إلى عيون متفجرة.
وقوله - سبحانه -: { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } بيان لكمال حكمته - تعالى - بعد بيان مظاهر قدرته. أى: فاجتمع الماء النازل من السماء، مع الماء المتفجر من الأرض، على أمر قد قدره الله - تعالى - وقضاه أزلا، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
فالمراد بالماء: ماء السماء وماء الأرض.
وقال - سبحانه - { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } بالإِفراد، لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريقة المجاورة، بل كان بطريق الاتحاد والاختلاط، حتى لكأن الماء النازل من السماء. والمتفجر من الأرض، قد التقيا فى مكان واحد كما يلتقى الجيشان المعدان لإِهلاك غيرهما.
و { عَلَىٰ } فى قوله - تعالى - { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } للاستعلاء المفيد لشدة التمكن والمطابقة. أى: التقى الماء بعضه ببعض على الحال والشأن الذى قدرناه وقضيناه له، دون أن يحيد على ذلك قيد شعرة, إذ كل شىء عندنا بمقدار.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عبده نوح - عليه السلام - فقال: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا... }.
والدُسْر: جمع دسار - ككتاب وكتب - أى: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وأصل الدُسْر: الدفع الشديد بقوة، سمى به المسمار، لأنه يدق فى الخشب فيدفع بقوة.
وقيل: الدسر: الخيوط التى تشد بها ألواح السفينة، وقيل الدسر: صدرها ومقدمتها، وقوله: { ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } صفة لموصوف محذوف.
أى: وحملنا نوحا ومن معه من المؤمنين، على سفينة ذات ألواح من الخشب ومسامير يشد بها هذا الخشب ويربط..
قال صاحب الكشف: قوله: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أراد السفينة، وهو من الصفات التى تقوم مقام الموصوفات، فتنوب منابها، وتؤدى مؤداها، بحيث لا يفصل بينهما وبينها. وهذا من فصيح الكلام وبديعه...
وعدى فعل { وَحَمَلْنَاهُ } إلى نوح وحده، مع أن السفينة حملت معه المؤمنين، لأن هذا الحمل كان إجابة لدعوته، وقد جاءت آيات أخرى أخبرت بأن المؤمنين كانوا معه فى السفينة، ومن هذه الآيات، قوله - تعالى -:
{ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ... } وقوله { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أى تجرى هذه السفينة بمرأى منا، وتحت رعايتنا وقدرتنا.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت قوم نوح محل غضب الله - تعالى - ونقمته فقال: { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ }.
وقوله: { جَزَآءً } مفعول لأجله، لقوله: { فَتَحْنَآ } وما عطف عليه، أى: فعلنا ما فعلنا من فتح السماء بماء منهمر، جزاء لكفرهم بالله - تعالى - وبنبيه نوح - عليه السلام - الذى كان نعمة لهم، ولكنهم كفروها ولم يشكروا الله عليها، فاستحقوا الغرق والدمار.
وحذف - سبحانه - متعلق { كُفِرَ } لدلالة الكلام عليه، أى: كفر به.
قال الآلوسى. وقوله: { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أى: فعلنا ذلك جزاء لنوح - عليه السلام -، فإنه كان نعمة أنعمها الله - تعالى - على قومه فكفروها، وكذا كل نبى نعمة من الله - تعالى - على أمته.
وجوز أن يكون على حذف الجار، وإيصال الفعل إلى الضمير، واستتاره فى الفعل، بعد انقلابه مرفوعا. أى: لمن كفر به، وهو نوح - عليه السلام - أى: جحدت نبوته.
فالكفر عليه ضد الإِيمان، وعلى الأول كفران النعمة...
والضمير المنصوب فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً... } يعود إلى الفعلة المهلكة التى فعلها الله - تعالى - بقوم نوح - عليه السلام -.
أى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح، وإهلاكنا لهم، آية وعلامة لمن بعدهم. وعظة وعبرة لمن يعتبر ويتعظ بها.
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ... } ويصح أن يكون الضمير يعود إلى السفينة. أى: ولقد أبقينا هذه السفينة من بعد إهلاك قوم نوح، علامة وعبرة لمن يشاهدها.
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال القرطبى: قوله: { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً... } يريد هذه الفعلة عبرة.
وقيل: أراد السفينة، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل..
قال قتادة: أبقاها الله - تعالى - بِبَاقِرْدَى، من أرض الجزيرة - قرب الموصل بالعراق - لتكون عبرة وآية، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا...
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التى أنزلها - سبحانه - بقوم نوح - عليه السلام - بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا، ويكفوا عن تكذيب الرسل، كما أن السفينة قد أبقاها - سبحانه - بعد إغراقهم إلى الزمن الذى قدره وأراده، لتكون - أيضا - عبرة وعظة لغيرهم.
والاستفهام فى قوله: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } للحض على التذكر والاعتبار، ولفظ { مُّدَّكِرٍ } أصله مذتكر من الذُّكْر الذى هو ضد النسيان، فأبدلت التاء دالا مهملة، وكذا الذال المعجمة ثم أدغمت فيها، ومنه قوله - تعالى -:
{ وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ... } أى: وتذكر بعد نسيان.
أى: ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة، فاعتبروا بذلك - أيها الناس -، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة، لتنجوا من غضبه وعقابه.
والاستفهام فى قوله - سبحانه -: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } للتهويل والتعجيب من شدة هذا العذاب الذى حاق بقوم نوح - عليه السلام -.
أى: فكيف كان عذابى لهم، وإنذارى إياهم؟ لقد كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، ولا تحدها العبارة.
والنذر: مفرده نذير، وجمع لتكرار الإِنذار من نوح - عليه السلام - لقومه.
قال الجمل: وقرىء فى السبع بإثبات الياء وحذفها. وأما فى الرسم فلا تثبت لأنها من ياءات الزوائد، وكذا يقال فى المواضع الآتية كلها...
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله ورحمته على هذه الأمة، حيث جعل كتابه ميسرا فى حفظه وفهمه، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
أى: والله لقد سهلنا القرآن { لِلذِّكْرِ } أى: للتذكر والحفظ، بأن أنزلناه فصيحا فى ألفاظه، بليغا فى تراكيبه، واضحا فى معانيه، سهل الحفظ لمن أراد أن يحفظه.. فهل من معتبر ومتعظ، بقصصه، ووعده، ووعيده، وأمره، ونهيه؟.
وقد وردت هذه الآية فى أعقاب قصة نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام -، لتأكيد مضمون ما سبق فى قوله - تعالى -:
{ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } وللتنبيه والإِشعار بأن كل قصة من تلك القصص جديرة بإيجاب الاتعاظ، وكافية فى الاعتبار والازدجار { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } والمقصود بالآية الكريمة التحضيض على حفظ القرآن الكريم والاعتبار بمواعظه، والعمل بما فيه من تشريعات حكيمة، وآداب قويمة، وهدايات سامية..
ثم انتقلت إلى الحديث عن قصة قبيلة عاد مع نبيهم هود - عليه السلام - فذكرت ما حل بهم من عقاب بسبب كفرهم وطغيانهم، فقال - تعالى -: { كَذَّبَتْ عَادٌ... }.