التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ
٢٣
فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٢٤
أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
٢٥
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ
٢٦
إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ
٢٧
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
٢٨
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ
٢٩
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٠
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ
٣١
وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٣٢
-القمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قصة قبيلة ثمود مع نبيهم صالح - عليه السلام - قد وردت فى سور متعددة منها سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، وسورة النمل.
وينتهى نسبهم إلى جدهم ثمود، وقيل سموا بذلك لقلة ماء المكان الذى كانوا يعيشون فيه، لأن الثمد هو الماء القليل.
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم -، وهو مكان يقع بين الحجاز والشام، وما زال معروفا إلى الآن.
ونبيهم صالح - عليه السلام - ينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام -.
وقوله: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } أى: كذبت قبيلة ثمود بالنذر التى جاءتهم عن طريق رسولهم صالح - عليه السلام - فالنذر بمعنى الإِنذارات التى أنذرهم بها صالح - عليه السلام - ثم حكى - سبحانه - مظاهر تكذيبهم فقال: { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ... }.
و "بشرا" منصوب على المفعولية بالفعل "نتبعه" على طريقة الاشتغال، وقدم لاتصاله بهمزة الاستفهام، لأن حقها التصدير، والاستفهام للإِنكار، وواحدا صفة لقوله { أَبَشَراً }. أى: أن قوم صالح - عليه السلام - حين جاءهم برسالته التى تدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى -، أنكروا ذلك، وقالوا: أنتبع واحدا من البشر جاءنا بهذا الكلام الذى يخالف ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا؟.
{ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أى: إنا إذا لو اتبعناه لصرنا فى ضلال عظيم، وفى { سُعُرٍ } أى وفى جنون واضح، ومنه قولهم: ناقة مسعورة، إذا كانت لا تستقر على حال، وتفرط فى سيرها كالمجنونة.
أو المعنى: إنا لو اتبعناه لكنا فى ضلال، وفى نيران عظيمة. فالسعر بمعنى النار المسعرة، ثم أخذوا فى تفنيد دعوته، فقالوا: { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا.. } والاستفهام للإِنكار والنفى. والمراد بالإِلقاء: الإِنزال. وبالذكر: الوحى الذى أوحاه الله - تعالى - إليه، وبلغه لهم. أى: أأنزل الوحى على صالح وحده دوننا؟ لا لم ينزل عليه الوحى دوننا، فهو واحد من أفنائنا، وليس من أشرافنا..
{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أى: بل صالح فيما يدعونا إليه كذاب { أَشِرٌ } أى: بطر متكبر، معجب بنفسه، يقال: أشر فلان، إذا أبطرته النعمة، وصار مغرورا متكبرا على غيره، ولا يستعمل نعم الله فيما خلقت له.
وهكذا الجاهلون الجاحدون، يقلبون الحقائق، وتصير الحسنات فى عقولهم سيئات، فصالح - عليه السلام - الذى جاءهم بما يسعدهم، أصبح فى نظرهم كذابا مغرورا، لا يليق بهم أن يتبعوه..
وقد ورد - سبحانه - عليهم ردا يحمل لهم التهديد والوعيد، فقال - تعالى -: { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ }.
أى: سيعلم هؤلاء الكافرون، فى الغد القريب يوم ينزل بهم العذاب المبين، من هو الكذاب فى أقواله، ومن هو المغرور المتكبر على غيره، أصالح - عليه السلام - أم هم؟!
والتعبير بالسين فى قوله { سَيَعْلَمُونَ } لتقريب مضمون الجملة وتأكيده.
والمراد بقوله: { غَداً } الزمن المستقبل القريب الذى سينزل فيه العذاب عليهم..
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك، ما أمر به نبيه صالحا - عليه السلام - فقال: { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ }.
وقوله: { مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ } أى: مخرجوها وباعثوها، لأنهم اقترحوا على نبيهم صالح أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه، لكى يتبعوه، فأخرج الله - تعالى - لهم تلك الناقة، من مكان مرتفع قريب منهم.
وإلى هذا المعنى أشار - سبحانه - فى آيات أخرى منها قوله - تعالى -:
{ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } وقوله { فِتْنَةً } أى: اختبارا وامتحانا لهم، فهو مفعول لأجله.
وقوله { فَٱرْتَقِبْهُمْ } من الارتقاب بمعنى الانتظار، ومثله { وَٱصْطَبِرْ } فهو من الاصطبار، وأل فى قوله: { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ.. } للعهد. أى: الماء المعهود لهم، وهو ماء قريتهم الذى يستعملونه فى حوائجهم المتنوعة.
وقوله: { قِسْمَةٌ } بمعنى المقسوم، وعبر عنه بالمصدر للمبالغة.
والضمير فى "بينهم" يعود عليهم وعلى الناقة، وجىء بضمير العقلاء على سبيل التغليب.
وقوله: { مُّحْتَضَرٌ } اسم مفعول من الحضور الذى هو ضد الغيبة، وحذف المتعلق لظهوره. أى: محتضر عنده صاحبه.
والشِّرْب: النصيب والمرة من الشُّرب.
أى: وقلنا لنبينا صالح على سبيل الإِرشاد والتعليم، بعد أن طلب منه قومه معجزة تدل على صدقه. قلنا له. أخبرهم أننا سنرسل الناقة، وسنخرجها لهم أمام أعينهم، لتكون دليلا على صدقك، ولتكون امتحانا واختبارا لهم، حتى يظهر لك وللناس أيؤمنون أم يصرون على كفرهم.
{ فَٱرْتَقِبْهُمْ } - أيها الرسول الكريم -، وانتظر ماذا سيصنعون بعد ذلك { وَٱصْطَبِرْ } على أذاهم صبرا جميلا، حتى يحكم الله بينك وبينهم.
{ وَنَبِّئْهُمْ } أى: وأخبرهم خبرا هاما، هذا الخبر هو { أَنَّ ٱلْمَآءَ } الذى يستقون منه { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } وبين الناقة، أى: مقسوم بينهم وبينها، فهم لا يشاركونها فى يوم شربها، وهى لا تشاركهم فى يوم شربهم.
{ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أى: كل نصيب من الماء يحضره من هوله، فالناقة تحضر إلى الماء فى يومها، وهم يحضرون إليه فى يوم آخر.
ففى هاتين الآيتين تعليم حكيم من الله - تعالى - لنبيه صالح، وإرشاد له إلى ما يجب أن يسكله معهم، بيقظة واعية يدل عليها قوله - تعالى-: { فَٱرْتَقِبْهُمْ } وبصبر جميل لا يأس معه ولا ضجر، كما يشير إليه قوله - تعالى -: { وَٱصْطَبِرْ }.
وسياق القصة ينبىء عن كلام محذوف، يعلم من سياقها، والتقدير: أرسلنا الناقة، وقلنا له أخبرهم، أن الماء مقسوم بينهم وبين الناقة واستمروا على ذلك فترة من الزمان، ولكنهم ملوا هذه القسمة، ولم يرتضوها، وأجمعوا على قتل الناقة..
{ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ } وهو "قدار بن سالف" وهو المعبر عنه بقوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا } وعبر عنه - سبحانه - بصاحبهم، لأنه كان معروفا، وزعيما من زعمائهم..
والمقصود بندائهم إياه: إغراؤه بعقر الناقة وقتلها، مخالفين بذلك وصية نبيهم لهم بقوله
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وقوله - تعالى -: { فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ } مفرع على ما قبله، وقوله: { تَعَاطَىٰ } مطاوع للفعل عاطاه، وهو مشتق من عطا يعطو، إذا تناول الشىء.
وهذه الصيغة "تعاطى" تشير إلى تعدد الفاعل، فكأن هذا النداء بقتل الناقة، تدافعوه فيما بينهم، وألقاه بعضهم على بعض، فكان كل واحد منهم يدفعه إلى غيره، حتى استقر عند ذلك الشقى الذى ارتضى القيام به وتولى كبره، حيث عقر الناقة، فمفعول "عقر" محذوف للعلم به.
قال الآلوسى: قوله: { فَتَعَاطَىٰ } العقر، أى: فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
{ فَعَقَرَ } أى: فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون فتعاطى الناقة فعقرها. أو: فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف...
ولا تعارض بين هذه الآية التى تثبت أن الذى عقر الناقة هو هذا الشقى، وبين الآيات الأخرى التى تصرح بأنهم هم الذين عقروها، كما فى قوله - تعالى -
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ... } لأن المقصود أن القوم قد اتفقوا على هذا القتل للناقة، فنادوا واحدا منهم لتنفيذه، فنفذه وهم له مؤيدون، فصاروا كأنهم جميعا عقروها، لرضاهم بفعله، والعقر. يطلق على القتل والذبح والجرح، والمراد هنا: قتلها ونحرها.
والتعبير بقوله - تعالى بعد ذلك: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } يشير إلى هول العقوبة التى نزلت بهم، بسبب ما فعلوه من عقر الناقة، ومن تكذيبهم لنبيهم.
أى: انظر وتدبر - أيها العاقل - كيف كان عذابى وإنذارى لهؤلاء القوم؟ لقد كان شيئا هائلا لا تحيط به العبارة.
ثم فصل - سبحانه - هذا العقاب فقال: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ }
والهشيم: ما تهشم وتفتت وتكسر من الشجر اليابس، مأخوذ من الهشم بمعنى الكسر للشىء اليابس، أو الأجوف.
والمحتظر: هو الذى يعمل الحظيرة التى تكون مسكنا للحيوانات.
أى: إنا أرسلنا عليهم - بقدرتنا ومشيئتنا - صيحة واحدة صاحها بهم جبريل - عليه السلام - فصاروا بعدها كغصون الأشجار اليابسة المكسرة، يجمعها إنسان ليعمل منها حضيرة لسكنى حيواناته.
والمقصود بهذا التشبيه، بيان عظم ما أصابهم من عقاب مبين، جعلهم، كالأعواد الجافة حين تتحطم وتتكسر ويجمعها الجامع ليصنع منها حظيرته، أو لتكون تحت أرجل مواشيه.
وهذا العذاب عبر عنه هنا وفى سورة هود بالصيحة فقال:
{ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ... } وعبر عنه فى سورة الأعراف بالرجفة فقال: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ... } وعبر عنه فى سورة فصلت بالصاعقة فقال: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وعبر عنه فى سورة الحاقة بالطاغية، فقال: { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ... } ولا تعارض بين هذه التعبيرات لأنها متقاربة فى معناها، ويكمل بعضها بعضا، وهى تدل على شدة ما أصابهم من عذاب.
فكأنه - سبحانه - يقول: لقد نزل بهؤلاء المكذبين الصحية التى زلزلت كيانهم، فصعقتهم وأبادتهم، وجعلتهم كعيدان الشجر اليابس..
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة بما ختم به سابقتها فقال: { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
وجاءت بعد قصة قوم صالح، قصة قوم لوط - عليهما السلام - فقال - تعالى -: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ... }.