التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ
٣٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
٣٤
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
٣٥
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ
٣٦
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
٣٨
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٩
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
٤٠
-القمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقصة لوط - عليه السلام - قد وردت فى سور متعددة، منها: سورة الأعراف، وهود، والشعراء، والنمل، والعنكبوت..
ولوط - عليه السلام - هو - على الراجح - ابن أخى إبراهيم - عليه السلام -، وكان قد آمن به وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله - تعالى - إلى أهل سدوم. وهى قرية بوادى الأردن وكالوا يأتون الفواحش التى لم يسبقهم إليها أحد..
وقوله - تعالى -: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } أى: كذبوا بالإِنذارات والتهديدات التى هددهم بها نبيهم لوط، إذا لم يستجيبوا لإِرشاداته وأمره ونهيه....
فكانت نتيجة هذا التكذيب والفجور الذى انغمسوا فيه الهلاك والدمار كما قال - تعالى -: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً... }.
والحاصب: الريح التى تحصب، أى: ترمى بالحصباء، وهى الحجارة الصغيرة التى تهلك من تصيبه بأمر الله - تعالى -.
فقوله: { حَاصِباً } صفة لموصوف محذوف وهو الريح، وجىء به مذكرا لكونه موصوفه وهو الريح فى تأويل العذاب، أى: إنا أرسلنا إليهم عذابا حاصبا أهلكهم..
والاستثناء فى قوله - سبحانه -: { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } استثناء متصل، لأنهم من قومه. والسحر: هو الوقت الذى يختلط فيه سواد آخر الليل، ببياض أول النهار وهو قبيل مطلع الفجر بقليل.
أى: إنا أرسلنا عليهم ريحا شديدة ترميهم بالحصباء فتهلكهم، إلا آل لوط، وهم من آمن به من قومه، فقد نجيناهم من هذا العذاب المهلك فى وقت السحر، فالباء فى قوله { بِسَحَرٍ } بمعنى "فى" الظرفية. أو هى للملابسة، أى: حال كونهم متلبسين بسحر.
وقوله - تعالى -: { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا... } علة الإِيحاء، والنعمة بمعنى الإِنعام، أى: انجينا آل لوط من العذاب الذى نزل بقومه على سبيل الإِنعام الصادر من عندنا عليهم لا من عند غيرنا.
وقوله - تعالى -: { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } بيان لسبب هذا الإِنعام والإِيحاء..
أى: مثل هذا الجزاء العظيم، المتمثل فى إيحائنا للمؤمنين من آل لوط وفى إنعامنا عليهم.. نجازى كل شاكر لنا، ومستجيب لأمرنا ونهينا.
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين الشاكرين حتى يزدادوا من الطاعة لربهم، وتعريض بسوء مصير الكافرين الذين لم يشكروا الله - تعالى - على نعمه.
وفى قوله - تعالى -: { مِّنْ عِندِنَا } تنويه عظيم بهذا الإِنعام، لأنه صادر من عنده - تعالى - الذى لا تعد ولا تحصى نعمه.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بقوم لوط إلى الدمار والهلاك فقال: { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ... }.
والبطشة: المرة من البطش، بمعنى الأخذ بعنف وقوة، والمراد بها هنا: الإِهلاك الشديد.
والتمارى: تفاعل من المراء بمعنى الجدال، والمراد به هنا: التكذيب والاستهزاء، ولذا عدى بالباء دون فى. أى: والله لقد أنذرهم لوط - عليه السلام - وخوفهم من عذابنا الشديد الذى لا يبقى ولا يذر، ولكنهم كذبوه واستهزءوا به، وبتهديده وبتخويفه إياهم.
ثم يحكى - سبحانه - صورة أخرى من فجورهم فقال: { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ }.
والمراودة: مقابلة، من راد فلان يرود، إذا جاء وذهب، لكى يصل إلى ما يريده من غيره عن طريق المحايلة والمخادعة.
والمراد بضيفه ضيوفه من الملائكة الذين جاءوا إلى لوط - عليه السلام - لإِخباره بإهلاك قومه، وبأن موعدهم الصبح.. أى: ووالله لقد حاول هؤلاء الكفرة الفجرة المرة بعد المرة، مع لوط - عليه السلام - أن يمكنهم من فعل الفاحشة مع ضيوفه..
فكانت نتيجة محاولاتهم القبيحة أن { طَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } اى حجبناها عن النظر، فصاروا لا يرون شيئا أمامهم.
قال القرطبى: يروى أن جبريل - عليه السلام - ضربهم بجناحه فعموا، وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق. كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب. وقيل طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل.
وعدى - سبحانه - فعل المراودة بعن. لتضمينه معنى الإِبعاد والدفع. أى: حاولوا دفعه عن ضيوفه، ليتمكنوا منهم.
وأسند المراودة إليهم جميعا: لرضاهم عنها، بقطع النظر عمن قام بها.
وقوله: { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } مقول لقول محذوف، أى طمسنا أعينهم وقلنا لهم: ذوقوا عذابى الشديد الذى سينزل بكم، بسبب تكذيبكم لرسولى، واستخفافكم بما وجه إليكم من تخويف وإنذار.
والمراد من هذا الأمر: الخبر. أى: فأذقتهم عذابى الذى أنذرهم به لوط - عليه السلام -.
ثم بين - سبحانه - ما حل بهم من عذاب فقال: { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ... }. والبكرة: أول النهار وهو وقت الصبح، وجىء بلفظ بكرة للإِشعار بتعجيل العذاب لهم، أى: والله لقد نزل بهم عذابنا فى الوقت المبكر من الصباح نزولا دائما ثابتا مستقرا لا ينفك عنهم، ولا ينفكون عنه.. وقلنا لهم: ذوقوا عذابى، وسوء عاقبة تكذيبكم لرسولى لوط - عليه السلام -.
ثم ختم - سبحانه - قصتهم بما ختم به القصص السابقة فقال: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }؟
قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولى عليهم الغفلة، وهذا حكم التكرير، كقوله:
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } عند كل نعمة عدها فى سورة الرحمن.
وكقوله:
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } عند كل آية أوردها فى سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص فى أنفسها، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية فى كل أوان...
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة، ببيان ما حل بفرعون وقومه، وبتحذير مشركى قريش من سوء عاقبة كفرهم، وببيان ما أعد لهم من عذاب يوم القيامة، وبتبشير المتقين بحسن العاقبة فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ... }.