التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ
٤١
كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
٤٢
أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقصة فرعون وملئه مع موسى - عليه السلام - قد تكررت فى سور متعددة، منها سور: الأعراف، ويونس، وهود، وطه، والشعراء، والقصص.
وهنا جاء الحديث عن فرعون وملئه فى آيتين، بين - سبحانه - ما حل بهم من عذاب، بسبب تكذيبهم لآيات الله - تعالى -، فقال - سبحانه -: { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ }.
والمراد بآل فرعون: أقرباؤه وحاشيته وأتباعه الذين كانوا يؤيدونه ويناصرونه.
والنذر" جمع نذير، اسم مصدر بمعنى الإِنذار، وجىء به بصيغة الجمع، لكثرة الإِنذارات التى وجهها موسى - عليه السلام - إليهم.
أى: والله لقد جاء إلى فرعون وآله، الكثير من الانذارات والتهديدات على لسان نبينا موسى - عليه السلام - ولكنهم لم يستجيبوا له..
بل { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا } أى: بل كذبوا بجميع المعجزات التى أيدنا موسى - عليه السلام - بها، والتى كانت تدل أعظم دلالة على صدقة فيما يدعوهم إليه.
وأكد - سبحانه - هذه المعجزات بقوله، كلها للإِشعار بكثرتها، وبأنهم قد أنكروها جميعا دون أن يستثنوا منها شيئا.
وقوله: { فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } بيان لشدة العذاب الذى نزل بهم إذ الأخذ مستعار، للانتقام الشديد، وانتصاب { أَخْذَ... } على المفعولية المطلقة، وإضافته إلى "عزيز مقتدر" من إضافة المصدر إلى فاعله.
والعزيز: الذى لا يغلبه غالب، والمقتدر: الذى لا يعجزه شىء يريده.
أى: فأخذناهم أخذا لم يبق منهم أحدا، بل أهلكناهم جميعا، لأن هذا الأخذ صادر عن الله - عز وجل - الذى لا يغلبه غالب، ولا يعجزه شىء.
ووصف - سبحانه - ذاته هنا بصفة العزة والاقتدار، للرد على دعاوى فرعون وطغيانه وتبجحه، فقد وصل به الحال أن زعم أنه الرب الأعلى.. فأخذه - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر، يحق الحق ويبطل الباطل.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن أخبار الطغاة الغابرين، التفتت السورة الكريمة بالخطاب إلى كفار مكة، لتحذرهم من سوء عاقبة الاقتداء بالكافرين، ولتدعوهم إلى التفكر والاعتبار، فقال - تعالى -: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ }.
والاستفهام للنفى والإِنكار، والمراد بالخيرية، الخيرية الدنيوية، كالقوة والغنى والجاه، والسلطان، والخطاب لأهل مكة.
والبراءة من الشىء: التخلص من تبعاته وشروره، والمراد بها التخلص من العذاب الذى أعده الله - تعالى - للكافرين، والسلامة منه.
والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب الذى يكتب فيه.
والمعنى: أكفاركم - يا أهل مكة - خير من اولئكم السابقين فى القوة والغنى والتمكين فى الأرض..؟ أم أن لكم عندنا عهدا فى كتبنا، بأن لا نؤاخذكم على كفركم وشرككم..؟
كلا، ليس لكم شىء من ذلك فأنتم لستم بأقوى من قوم نوح وهود وصالح ولوط، أو من فرعون وملئه، وأنتم - أيضا - لم تأخذوا منا عهدا بأن نبرئكم من العقوبة عن كفركم..
وما دام الأمر كذلك فكيف أبحتم لأنفسكم الإِصرار على الكفر والجحود؟ إن ما أنتم عليه من شرك لا يليق بمن عنده شىء من العقل السليم.
ثم انتقل - سبحانه - إلى توبيخهم على شىء آخر من أقوالهم الباطلة فقال: { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ }. أى: بل أيقولون نحن جميع يد واحدة، وسننتصر على من خالفنا وعادانا؟ ولقد توهموا ذلك فعلا، وجاهروا به.
وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يبطل دعاواهم فقال: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } والتعريف فى { ٱلْجَمْعُ } للعهد، والدبر: الظهر وما أدبر من المتجه إلى الأمام.
أى: سيهزم جمع هؤلاء الكافرين ويولون أدبارهم نحوكم - أيها المؤمنون - ويفرون من أمامكم..
والتعبير بالسين لتأكيد أمر هزيمتهم فى المستقبل القريب، كما فى قوله - تعالى -:
{ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } والآية الكريمة من باب الإِخبار بالغيب، الدال على إعجاز القرآن الكريم.
قال الآلوسى: والآية من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد، ولا كان قتال، ولذا قال عمر يوم نزلت: أى جمع يهزم، أى: من جموع الكفار. فلما كان يوم بدر، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب فى الدرع وهو يقول { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ...
ثم بين - سبحانه - أن هزيمة المشركين ستعقبها هزيمة أشد منها، وأنكى فقال: { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ }.
والمراد بالساعة، يوم القيامة "وأدهى": اسم تفضيل من الداهية، وهى الأمر المنكر الفظيع الذى لا يعرف طريق للخلاص منه.
وقوله { وَأَمَرُّ } أى: وأشد مرارة وقبحا. أى: ليس هذا الذى يحصل لهم فى الدنيا من هزائم نهاية عقوباتهم، بل يوم القيامة هو يوم نهاية وعيدهم السيىء، ويوم القيامة هو أعظم داهية، وأشد مرارة مما سيصيبهم من عذاب دنيوى.
ثم فصل - سبحانه - ما سينزل بهم من عذاب يوم القيامة فقال: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }. أى: فى بعد عن الاهتداء إلى الحق بسبب انطماس بصائرهم، وإيثارهم الغى على الرشد، وفى نار مسعرة تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم.
ويقال لهم { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } أى: يوم يُجَرُّون فى النار على وجوههم، على سبيل الإِهانة والإِذلال.
{ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } أى: ويقال لهم: ذوقوا مس جهنم التى كنتم تكذبون بها، وقاسوا آلامها وعذابها.
فقوله - تعالى -: { سَقَرَ } علم على جهنم، مأخوذ من سقرت الشمس الشىء وصقرته، إذا غيرت معالمه وأذابته، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ }.
وقوله: { كُلَّ } منصوب بفعل يفسره ما بعده، والقدر: ما قدره الله - تعالى - على عباده، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.
أى: إنا خلقنا كل شىء فى هذا الكون، بتقدير حكيم، وبعلم شامل، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب، كما قال - تعالى -:
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وكما قال - سبحانه -: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وكما قال - عز وجل -: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة، على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه بالأشياء قبل كونها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها، وبما ورد فى معناها من أحاديث على الفرقة القدرية، الذين ظهروا فى أواخر عصر الصحابة.
ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه عن ابى هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى القدر، فنزلت: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.
والباء فى قوله { بِقَدَرٍ } للملابسة. أى: خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم، اقتضته سنتنا ومشيئتنا فى وقت لا يعلمه أحد سوانا..
وقوله - سبحانه -: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } بيان لكمال قدرته - تعالى -.
واللمح: النظر السريع العاجل الذى لا تريث معه ولا انتظار، يقال: لمح فلان الشىء إذا أبصره بنظر سريع.. وقوله: { وَاحِدَةٌ } صفة لموصوف محذوف.
أى: وما أمرنا وشأننا فى خلق الأشياء وإيجادها، إلا كلمة واحدة وهى قول: "كن" فتوجد هذه الأشياء كلمح البصر فى السرعة.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } والمراد بهذه الآية وأمثالها: بيان كمال قدرة الله - تعالى - وسرعة إيجاده لكل ما يريد إيجاده، وتحذير الظالمين من العذاب الذى متى أراده الله - تعالى - فلن يدفعه عنهم دافع، بل سيأتيهم كلمح البصر فى السرعة.
والتعبير بقوله: { وَاحِدَةٌ } لإِفادة أن كل ما يريد الله - تعالى - إيجاده فسيوجد فى اسرع وقت، وبكلمة واحدة لا بأكثر منها، سواء أكان ذلك الموجود جليلا أم حقيرا، صغيرا أم كبيرا..
ثم بين - سبحانه - ما يدل على نفاذ هذه القدرة وسرعتها فقال: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
والأشياع: جميع شيعة، وشيعة الرجل: أعوانه وأنصاره، وكل جماعة من الناس اتفقت فى رأيها فهم شيعة. قالوا: وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذى يوقد مع الكبار، حتى تشتعل النار، والمراد به هنا: الأشباه والنظائر.
أى: والله لقد أهلكنا أشباهكم ونظائركم فى الكفر من الأمم السابقة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، واتعظوا بما نزل بهم من عقاب.
فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والتحذير. والاستفهام فيها للحض على الاتعاظ والاعتبار.
ثم بين - سبحانه - أن كل ما يعمله الإِنسان. هو مسجل عليه، فقال: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ }. أى: وكل شىء فعله هؤلاء المشركون وغيرهم، مكتوب ومحفوظ فى كتب الحفظة، ومسجل عليهم لدى الكرام الكاتبين، بدون زيادة أو نقصان.
كما قال - تعالى - بعد ذلك: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أى: وكل صغير من الأقوال أو الأفعال، وكل كبير منهما، فهو مكتوب عندنا، ومسجل على صاحبه.
فقوله: { مُّسْتَطَرٌ } بمعنى مسطور ومكتتب. يقال: سطر يسطر سطرا، إذا كتب، واستطر مثله، والآية الكريمة مؤكدة لما قبلها.
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة، بتلك البشارة العظيمة للمتقين فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }.
أى: إن المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل محارم الله - تعالى - كائنين فى جنات عاليات المقدار، وفى { نَهَرٍ } أى: وفى سعة من العيش، ومن مظاهر ذلك أن الأنهار الواسعة تجرى من تحت مساكنهم، فالمراد بالنهر جنسه.
وقوله: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أى: فى مكان مرضى، وفى مجلس كريم، لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة، فالمراد بالمقعد مكان القعود الذى يقيم فيه الإِنسان بأمان واطمئنان.
{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } أى: مقربين عند ملك عظيم، قادر على كل شىء.
فالمراد بالعندية هنا، عندية الرتبة والمكانة والتشريف.
وقال - سبحانه - عند مليك، للمبالغة فى وصفه - سبحانه - بسعة الملك وعظمه، إذ وصفه - سبحانه - بمليك، أبلغ من وصفه بمالك أو ملك، لأن { مَلِيكٍ } صيغة مبالغة بزنة فعيل.
وتنكير "مقتدر" للتعظيم والتهويل، وهو أبلغ من قادر، إذ زيادة المبنى تشعر بزيادة المعنى. أى: عظيم القدرة بحيث لا يحيط بها الوصف.
وبهذا فهذا تفسير محرر لسورة "القمر" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..