التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
-القمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذى يبعث فى النفوس الرهبة والخشية، فهو يخبر عن قرب انقضاء الدنيا وزوالها.
إذ قوله - تعالى -: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } أى: قرب وقت حلول الساعة، ودنا زمان قيامها.
والساعة فى الأصل: اسم لمدار قليل من الزمان غير معين، وتحديدها بزمن معين اصطلاح عرفى، وتطلق فى عرف الشرع على يوم القيامة.
وأطلق على يوم القيامة يوم الساعة، لوقوعه بغتة، أو لسرعة ما فيه من الحساب، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله - تعالى -.
وقد وردت أحاديث كثيرة، تصرح بأن ما مضى من الدنيا كثير بالنسبة لما بقى منها، ومن هذه الاحاديث ما رواه البزار عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"خطب أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب.. فقال: والذي نفسى بيده ما بقى من الدنيا فيما مضى منها، إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه" .
وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بعثت أنا والساعة هكذا" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى...
وشبيه بهذا الافتتاح قوله - تعالى -: فى مطلع سورة الأنبياء:
{ ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وقوله - سبحانه - فى افتتاح سورة النحل: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمقصود من هذا الافتتاح المتحدث عن قرب يوم القيامة، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم، وحضهم على حسن الاستعداد لاستقباله عن طريق الإِيمان والعمل الصالح.
وقوله - تعالى -: { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } معطوف على ما قبله عطف جملة على جملة.
وقوله: { وَٱنشَقَّ } من الانشقاق بمعنى الافتراق والانفصال.
أى: اقترب وقت قيام الساعة، وانفصل وانفلق القمر بعضه عن بعض فلقتين، معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك بمكة قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - بنحو خمس سنين، وقد رأى هذا الانشقاق كثير من الناس..
وقد ذكر المفسرون كثيرا من الأحاديث فى هذا الشأن، وقد بلغت الأحاديث مبلغ التواتر المعنوى..
قال الإِمام ابن كثير: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء - أى: انشقاق القمر-، فقد وقع فى زمان النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ثم ذكر -رحمه الله - جملة من الأحاديث التى وردت فى ذلك، ومنها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبى - صلى الله عليه وسلم - آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }.
وأخرج الإِمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فلقتين: فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل. فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
وروى الشيخان عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين، حتى نظروا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اشهدوا".
وقال الآلوسى: بعد أن ذكر عددا من الأحاديث فى هذا الشأن: والأحاديث الصحيحة فى الانشقاق كثيرة، واختلف فى تواتره، فقيل: هو غير متواتر: وفى شرح المواقف أنه متواتر. وهو الذى اختاره العلامة السبكى، فقد قال: الصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه فى القرآن، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق شتى، لا يمترى فى تواتره.
وقد جاءت أحاديثه فى روايات صحيحة، عن جماعة من الصحابة، منهم عل بن أبى طالب، وأنس، وابن مسعود..
ثم قال -رحمه الله - بعد أن ذكر شبهات المنكرين لحادث الانشقاق: والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد، ولا يستطيع أن يأتى بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد فى مثل هذه المقامات قريب من الجنون. عند من له عقل سليم.
ثم بين - سبحانه - موقف هؤلاء المشركين من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } .
أى: وإن يرى هؤلاء المشركون آية ومعجزة تدل على صدقك - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها جحودا وعنادا. ويقولوا - على سبيل التكذيب لك - ما هذا الذى أتيتنا به يا محمد إلا سحر مستمر، أى: سحر دائم نعرفه عنك، وليس جديدا علينا منك.
قال صاحب الكشاف: { مُّسْتَمِرٌّ } أى دائم مطرد، وكل شىء قد انقادت طريقته، ودامت حاله، قيل فيه قد استمر، لأنهم لما رأوا تتابع المعجزات، وترادف الآيات. قالوا: "هذا سحر مستمر".
وقيل: مستمر، أى: قوى محكم - من المرَّة بمعنى القوة -، وقيل: هو من استمر الشىء إذا اشتدت مرارته، أى: مستبشع عندنا مُرٌّ على لَهوَاتِنا، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ الشىء المر. وقيل: مستمر، أى: مار ذاهب زائل عما قريب - من قولهم: مَرَّ الشىء واستمر إذا ذهب.
ثم أخبر - سبحانه - عن حالهم فى الماضى، بعد بيان حالهم فى المستقبل، فقال - تعالى -: { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ }.
أى: أن هؤلاء الجاحدين جمعوا كل الرذائل، فهم إن يروا معجزة تشهد لك بالصدق - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها، ويصفوها بأنها سحر، وهم فى ماضيهم كذبوا دعوتك، واتبعوا أهواءهم الفاسدة، ونفوسهم الأمارة بالسوء.
وجملة: { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } معترضة، وهى جارية مجرى المثل، أى: وكل أمر لا بد وأن يستقر إلى غاية، وينتهى إلى نهاية، وكذلك أمر هؤلاء الظالمين، سينتهى إلى الخسران، وأمر المؤمنين سينتهى إلى الفلاح.
وفى هذا الاعتراض تسلية وتبشير للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بحسن العاقبة، وتيئيس وإقناط لأولئك المشركين من زوال أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا يتمنون ويتوهمون.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ثم بين - سبحانه - أنهم قوم لا تتأثر قلوبهم بالمواعظ والنذر، فقال: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ }.
والأنباء: جمع نبأ وهو الخبر المشتمل على أمور هامة، من شأنها أن يتأثر بها السامع.
ومزدجر: مصدر ميمى، وأصله مُزْتَجر. فأبدلت تاء الافتعال دالا، وأصله من الزجر. بمعنى المنع والانتهار. أى: ولقد جاء لهؤلاء المشركين فى لقرآن الكريم، من الأنباء الهامة، ومن أخبار الأمم البائدة، ما فيه ازدجار وانتهار لهم عن الارتكاس فى القبائح وعن الإِصرار على الفسوق والكفر والعصيان.
و "ما" فى قوله - سبحانه -: { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } موصولة، وهى فاعل قوله { جَآءَهُم }، وقوله { مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } فى موضع الحال منها..
وقوله - تعالى -: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } بدل من "ما" أو خبر لمبتدأ محذوف.
والحكمة: العلم النافع الذى يترتب عليه تحرى الصواب فى القول والفعل.
أى: هذا الذى جاءهم من أنباء الماضين، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه عن الحكم البليغة، والعظات الواضحة التى لا خلل فيها ولا اضطراب.
و "ما" فى قوله: { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } نافية، والنذُر: جمع نذير بمعنى مُنذِر.
أى: لقد جاء إلى هؤلاء المشركين من الأخبار ومن الحكم البليغة ما يزجرهم عن ارتكاب الشرور، وما فيه إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى غيهم، ولكن كل ذلك لا غناء فيه، ولا نفع من ورائه لهؤلاء الجاحدين المعاندين الذين عمو وصموا..
ويصح أن تكون "ما" هنا، للاستفهام الإِنكارى. أى: ما الذى تغنيه النذر بالنسبة لهؤلاء المصرين على الكفر؟ إنها لا تغنى شيئا ما داموا لم يفتحوا قلوبهم للحق:
والفاء فى قوله - تعالى -: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } للتفريع على ما تقدم، وهى تفيد السببية.
وقوله: { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ } ظرف لقوله: { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } والداع: هو إسرافيل - عليه السلام - الذى ينفخ فى الصور بأمر الله - تعالى -.
والمراد بالنكر: الأمر الفظيع الهائل، الذى لم تألفه النفوس، ولم تر له مثيلا فى الشدة.
أى: إذا كان هذا حالهم من عدم إغناء النذر فيهم، فتول عنهم - أيها الرسول الكريم -، ولا تبال بهم، واتركهم فى طغيانهم يعمهون، وانتظر عليهم إلى اليوم الذى يدعوهم فيه الداعى، إلى أمر فظيع عظيم، تنكره النفوس، لعدم عهدهم بمثله، وهو يوم البعث والنشور.
قال الجمل: وقوله: { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ } منصوب إما باذكر مضمرا.. وإما بيخرجون..
وحذفت الواو من "يدع" لفظا لالتقاء الساكنين، ورسما تبعا للفظ، وحذفت الياء من { ٱلدَّاعِ } للتخفيف.. والداع هو إسرافيل...
وقوله: { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } حال من الفاعل فى قوله: { يَخْرُجُونَ... }: أى: ذليلة أبصارهم بحيث تنظر إلى ما أمامها من أهوال نظرة البائس الذليل، الذى لا يستطيع أن يحقق نظره فيما ينظر إليه.
قال القرطبى: الخشوع فى البصر: الخضوع والذلة. وأضاف - سبحانه - الخشوع إلى الأبصار، لأن أثر العز والذل يتبين فى ناظر الإِنسان.
قال - تعالى -:
{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } وقال - تعالى -: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ... } ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره إذا غضه..
وقرأ حمزة والكسائى: خاشعا أبصارهم..
وقوله: { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أى: يخرجون من القبور، وعيونهم ذليلة من شدة الهول، وأجسادهم تملأ الآفاق، حتى لكأنهم جراد منتشر، قد سد الجهات. واستتر بعضه ببعض.
فالمقصود بالجملة الكريمة تشبيههم بالجراد فى الكثرة والتموج، والاكتظاظ والانتشار فى الأقطار وهم يسرعون الخطا نحو أرض المحشر.
وقوله: { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أى: مسرعين نحوه، وقد مدوا أعناقهم إلى الإِمام، مأخوذ من الإِهطاع، وهو الإِسراع فى المشى مع مد العنق إلى الإِمام. يقال: أهطع فلان فى جريه، إذا أسرع فيه من الخوف، فهو مهطع.
{ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } وقد رأوا من أهوال يوم القيامة ما يدهشهم: { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أى: يقولون هذا يوم صعب شديد، بسبب ما يعانون من أهواله ويتوقعون فيه من سوء العاقبة.
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، يراها قد وصفت أحوال الكافرين فى هذا اليوم، وصفا تقشعر من هوله الأبدان.. فهم أذلاء ضعفاء ينظرون إلى ما يحيط بهم نظرة الخائف المفتضح، وهم فى حالة خروجهم من قبورهم كأنهم الجراد المنتشر، فى الكثرة والتموج والاضطراب، وهم يسرعون نحو الداعى بذعر دون أن يلووا على شىء، ودون أن يكون فى إمكانهم المخالفة أو التأخر عن دعوته.
ثم هم بعد ذلك يقولون على سبيل التحسر والتفجع: هذا يوم شديد الصعوبة والعسر.
ثم عرضت السورة بعد ذلك جانبا من مصارع الغابرين، لعل فى هذا العرض ما يروعهم عن الكفر والجحود، وما يحملهم على انتهاج طريق الحق والهدى، فقال - تعالى -: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ... }.