التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
١٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٦
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
-الرحمن

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والصلصال - الطين اليابس الذى تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشىء.
والفخار: الخزف المجوف الذى صار كذلك بعد أن أدخل فى النار.
ولا تعارض بين هذه الآية، وبين غيرها من الآيات التى تحكى أن الإِنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون.
لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإِنسان، لأن هذا التراب صار طينا، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا، أى: طينا أسود متغير الرائحة، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار.
فالآيات الكريمة التى تحدثت عن خلق الإِنسان لا يصادم بعضها بعضا، وإنما يؤيد بعضها بعضا.
قال بعض العلماء: وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإِنسان يحتوى من العناصر ما تحتويه الأرض، فهو يتكون من الكربون، والأكسجين، والحديد...
وهذه نفسها هى العناصر المكونة للتراب، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر، وفى الإِنسان عن التراب، إلا أن أصنافها واحدة.
إلا أن هذا الذى اثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمى للنص القرآنى.
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذى أثبته العلم، أو تعنى شيئا آخر سواه، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التى يتحقق بها معنى خلق الإِنسان من تراب، أو من طين، أو من صلصال..
والذى ننبه إليه بشدة، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمى بشرى، قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإِنسان، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة.
والمعنى: خلق - سبحانه - بقدرته أباكم آدم الذى هو أصلكم، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار فى يبوسته وصلابته.
{ وَخَلَقَ } - سبحانه - { ٱلْجَآنَّ } أى: جنس الجن { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أى: من لهب خالص لا دخان فيه، أو مما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر وغير الأحمر، إذ المارج، هو المختلط، وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق، أى: خلق جنس الجان من خليط من لهب النار. ومن فى قوله { مِّن نَّارٍ } للبيان.
قال ابن كثير: يذكر الله - تعالى - خلقه الإِنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها قاله الضحاك، وعن ابن عباس: من مارج من نار، أى: من لهب النار..
وروى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" .
والمقصود بالآيتين تذكير بنى آدم بفضلهم على غيرهم، حيث بين - سبحانه - لهم مبدأ خلقهم، وأنهم قد خلقوا من عنصر غير الذى خلق منه الجن، وأن الله - تعالى - قد أمر إبليس المخلقو من النار، بالسجود لأبيهم آدم المخلوق من الطين، فعليهم أن يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة، وأن يحذروا وسوسة إبليس وجنوده.
وبعد أن أمر بشكر هذه النعم، أتبع ذلك ببيان مظهر آخر من مظاهر قدرته، فقال: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
أى: هو - سبحانه - رب مشرق الشمس فى الشتاء والصيف، ورب مغربها فيهما، وفى هذا التدبير المحكم منافع عظمى للإِنسان والحيوان والنبات.
ولا تعارض بين هذه الآية، وبين قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ... } لأن المراد بهما جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التى هى ثلاثمائة وستون مشرقا، وعلى كل مغرب من مغاربها التى هى كذلك.
أو بين قوله - تعالى - فى آية ثالثة:
{ رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ } أى: ورب جميع المشارق التى تشرق منها الشمس فى كل يوم على مدار العام إذ لها فى كل يوم مشرق معين تشرق منه، ولها فى كل يوم أيضا - مغرب تغرب فيه.
ثم قال - سبحانه -: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }.
وقوله: { مَرَجَ } من المرّج بمعنى الإِرسال والتخلية، ومنه قولهم: مرج فلان دابته. إذا أرسلها إلى المرج، وهو المكان الذى ترعى فيه الدواب.
ويصح أن يكون من المرج بمعنى الخلط، ومنه قوله - تعالى -: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أى: مختلط، وقيل للمرعى: مرج لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.
والمراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر الملح، والبرزخ: الحاجز الذى يحجز بينهما، بقدرة الله - تعالى -.
والمعنى: خلق الله - تعالى - البحرين، وأرسلهما بقدرته فى مجاريهما، بحيث يلتقيان ويتصل أحدهما بالآخر، ومع ذلك لم يختلطا، بل يبقى المالح على ملوحته. والعذب على عذوبته، لأن حكمة الله قد اقتضت أن يفصل بينهما، بحواجز من أجرام الأرض، أو بخواص فى كل منهما، تمنعهما هذه الخواص وتلك الحواجز، من أن يختلطا، ولولا ذلك لاختلطا وامتزجا، وهذا من أكبر الأدلة على قدرة الله - تعالى -، ورحمته بعباده، إذ أبقى الله - تعالى - المالح على ملوحته، والعذب على عذوبته، لينتفع الناس بكل منهما فى مجال الانتفاع به..
فالماء العذب ينتفع به فى الشراب للناس والدواب والنبات.. والماء المالح ينتفع به فى أشياء أخرى، كاستخراج الملح منه، وفى غير ذلك من المنافع..
ومن بديع صنع الله فى هذا الكون، أنك تشاهد البحار الهائلة على سطح الأرض، والأنهار الكثيرة، ومع ذلك فكل نوع منهما باق على خصائصه، مع أن كلا منهما قد يلتقى بالآخر.
قال بعض العلماء: والمقصود بالبحرين ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات. وبحر العجم، المسمى اليوم بالخليج الفارسى. والتقاؤهما: انصباب ماء الفرات فى الخليج الفارسى، فى شاطىء البصرة، والبلاد التى على الشاطىء العربى من الخليج الفارسى تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.
والمراد بالبرزخ بينهما: الفاصل بين الماءين: الحلو والملح بيحث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره وذلك بسبب ما فى كل منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به وهذا من مسائل الثقل النوعى.
وذكر البرزخ تشبيه بليغ، أى: بينهما مثل البرزخ، ومعنى لا يبغيان: أى لا يبغى أحدهما على الآخر، أى: لا يغلب عليه فيفسد طعمه، فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغى...
وقال صاحب الظلال -رحمه الله -: والبحران المشار إليهما هما البحر المالح، والبحر العذب، ويشمل الأول البحار والمحيطات، ويشمل الثانى الأنهار. ومرج البحرين: أرسلهما وتركهما يلتقيان. ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله - تعالى -.
وتصب جميع الأنهار - تقريبا - فى البحار، وهى التى تنقل إليها أملاح الأرض، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغى عليها، ومستوى سطوح الأنهار أعلى- فى العادة - من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغى البحر على الأنهار التى تصب فيه. ولا يغمر مجاريها بمائه الملح.. وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله، فلا يبغيان.
فلا عجب أن يذكر - سبحانه - البحرين، وما بينهما من برزخ، فى مجال الآلاء والنعم...
ثم يذكر - سبحانه - بعض نعمه المختبئة فى البحرين فيقول: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }.
و { الُّلؤْلُؤُ } - فى أصله حيوان، وهو أعجب ما فى البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة جيرية تقيه من الأخطار.. ويفرز مادة لزجة تتجمد مكونة "اللؤلؤ".
والمرجان - أيضا - حيوان يعيش فى البحار.. ويكون جزرا مرجانية ذات ألوان مختلفة: صفراء برتقالة ، أو حمراء قرنفلية، أو زرقاء زمردية.
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ الحلى الغالية الثمن، العالية القيمة، التى تتحلى بها النساء..
والآية الكريمة صريحة فى أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين - الملح والعذب - إلا أن كثيرا من المفسرين ساروا على أنه - أى: اللؤلؤ والمرجان - يخرج من أحدهما فحسب، وهو البحر الملح..
قال الآلوسى ما ملخصه: واللؤلؤ صغار الدر، والمرجان كباره.. وقيل: العكس..
والمشاهد أن خروج "اللؤلؤ والمرجان" من أحدهما وهو الملح.. لكن لما التقيا وصارا كالشىء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميعه، ولكن من بعضه، كما تقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره، وقد يسند إلى الإِثنين ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم...
والحق أن ما سار عليه الإِمام الآلوسى وغيره: من أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر الملح لا من البحر العذب، مخالف لما جاء صريحا فى قوله - تعالى -:
{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا... } فإن هذه الآية صريحة فى أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين الملح والعذب، وقد أثبتت البحوث العلمية صحة ذلك، فقد عثر عليهما فى بعض الأنهار العذبة، التى فى ضواحى ويلز واسكتلاندا فى بريطانيا...
ثم بين - سبحانه - نعمة أخرى من نعمه التى مقرها البحار فقال: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
والجوار: أى السفن الجارية، فهى صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه، وهو قوله - تعالى - { فِي ٱلْبَحْرِ }.
والمنشآت: جمع منشأة - اسم مفعول - أى: مرفوعة الشراع، وهو ما يسمى بالقلع، من أنشأ فلان الشىء، إذا رفعه عن الأرض، وأنشأ فى سيره إذا اسرع..
أى: وله - سبحانه - وحده لا لغيره، التصرف المطلق فى السفن المرفوعة القلاع والتى تجرى فى البحر، وهى تشبه: الجبال فى ضخامتها وعظمتها.
والتعبير: بقوله - تعالى - { وَلَهُ } للاشعار بأن كونهم هم الذين صنعوها لا يخرجها عن ملكه - تعالى - وتصرفه، إذ هو الخالق الحقيقى لهم ولها، وهو الذى سخر تلك السفن لتشق ماء البحر بأمره.
ومن الآيات الكثيرة التى تشبه هذه الآية فى دلالتها على قدرة الله - تعالى - وعلى مننه على عباده بهذه السفن التى تجرى فى البحر بأمره. قوله - تعالى -:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله - تعالى -، ونعمه على عباده.. جاء الحديث عن تفرده - تعالى - بالبقاء، بعد فناء جميع المخلوقات التى على ظهر الأرض، وعن افتقار الناس إليه وحده - سبحانه - وغناه عنهم فقال - تعالى -: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ... }.